لن نتحدث في مقالنا هذا، عن طبيعة ما يقدم من محتويات تعليمية في هذا العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، ولكن، فكرة موضوعنا هنا، تتعلق بالمدرسة كمكان، نتساءل حوله، هل هو مغر للتعلم؟ ما طبيعة شكله الهندسي؟ وهل هو خاص بالعلم الذي يعلم للمتعلمين، أم أنه من الممكن أن يكون فضاء للمعرفة والعلم والعطاء الاجتماعي والثقافي والإنساني على مدار الأسبوع، وليس فقط خلال تواجد المتعلمين؟ هل هي مدارس تليق بحلم المتعلمين؟ .. رؤية رسمية قبل الخوض في هذا السؤال، وبقية الأسئلة المطروحة في تقديم مقالنا/موضوعنا، نتساءل ما المقصود بالمدرسة كمكان؟. طبعا، نادرا ما نلتفت إلى هذا السؤال وجوابه، إذ معظم البحوث والدراسات التي تنبش في ذاكرة سؤال التربية والتعليم في محيطنا العربي، عادة ما تذهب إلى المحتويات ومن يلقنها ومن يتعلمها ومن يشرف عليها، الخ، مع العلم أن المدرسة مكان نتعلم فيه، وهو الحضن الذي تتم فيه عملية التعلم من أول مرحلة نبدأ فيها إلى آخر مرحلة تعلمية، بما فيها مرحلة الجامعة. سنحصر مكان مقالنا هنا في ثلاث مراحل رئيسية أساسية في بناء علمنا وشخصيتنا، ويتعلق الأمر بمرحلة التعليم الأولي والإبتدائي (مع العلم أنه من الممكن تقسيم هذه المرحلة إلى مرحلتين وهما مرحلة التعليم الأولي والإبتدائي)، ثم مرحلة التعليم الإعدادي ومرحلة التعليم الثانوي. عموما، هذه هي المراحل الجوهرية في تعليم الطفل/المتعلم، لينتقل بعد حصوله على شهادة البكلوريا، إلى التعليم العالي. إذن، المدرسة هي مكان نتلقى فيه تعليمنا المنظم والنظامي وفق رؤية رسمية للدولة المشرفة على القطاع ووفق غاياتها ومراميها وانتظاراتها من هذا المتعلم/المواطن، الذي سيتحمل فيما بعد مسؤولية ما في وطنه، قد تكون منتمية إلى القطاع العام أو الخاص أو الشبه العام. بعد هذه التوضيحات التي لابد منها نطرح مرة أخرى سؤالنا العميق، ما هي طبيعة مدارسنا التي نتعلم فيها؟ هل هي فعلا جذابة ومغرية وممارسة ل”سلطة” التعلم لدى المتعلم أم هي بناية كانت صالحة في زمن الحاجة إلى تعلم المتعلمين لاسيما بعد حصول العديد من الدول العربية لاستقلالها، وهنا، كان من اللازم التفكير في المحتوى الذي سيتعلمه المتعلم أكثر من المكان الذي سيتعلم فيه؟. طبعا، حديثنا هنا، سيكون مركزا على المدرسة كمكان عمومي، دون التطرق إلى المدرسة في القطاع الخاص، لما لهذا الحديث الخاص بالتعليم الخاص من خصوصية كلامية، ليس هنا، مجال التفصيل فيه. لنبدأ من طبيعة توظيف المدرسة في بعض البلدان الأوروبية التي تتفوق علينا في التعامل مع هذه المدرسة كمكان للتربية والتعليم وتكوين شخصية المتعلم، بل، هذه المدرسة تشتغل على مدار الأسبوع برمته، ومن لدن جميع المكونات العمومية المجتمعية التي تدبر ليس فقط سؤال التعليم بل وحتى العديد من انشغالات وتطلعات الساكنة التي توجد المدرسة في موقعها. مثال حالة فنلندا، التي تبنى فيها المدرسة وفق معايير تخص كيان المتعلم الذي سيتعلم وسيحلم وسيتلذذ تعلمه، مع تجهيزها المتجدد بكافة ما تحث عليه التربية (علم الاجتماع التربوي وعلم النفس التربوي، الخ). خصوصية المدرسة كمكان لتعلم الطفل، هنا، لا يلغي استغلالها، في جعلها تكون رهن إشارة جميع المكونات المجتمعية للساكنة، إذ تتحول وخارج أوقات الدراسة إلى فضاء للتفكير فيها وبها ولها، وتمارس فيها العديد من الأنشطة العمومية ذات البعد الاجتماعي والثقافي والرياضي الخ. إنها الوظيفة المستمرة والدائمة للمدرسة في جعلها تساهم في بناء مجتمعها، فمنها يتخرج من سيكون في خدمتها وخدمة ساكنتها. .. التجربة الفنلندية هذه التجربة الفنلندية، تم تنظيم رحلة فرنسية إليها لمعرفة سر نجاحها، من لدن بعض المهتمين بسؤال التربية والتعليم في فرنسا. يحكي أحدهم أنه بمجرد دخوله لإحدى المدارس تمكن من معرفة سر نجاح هذا البلد في تربيته وتعليمه، إذ لاحظ أن دراجات المتعلمين الهوائية غير مقفلة، وأمتعتهم (مثل الألبسة، الخ)، معلقة في بعض ممرات المدرسة دون وضعها في صندوق مغلق بمفتاح في جيب المتعلم. إنها الثقة/الأخلاق العالية التي رسختها المدرسة في متعلميها، كمدخل لبناء شخصيته العمومية لاحقا. لنعد إلى مدارسنا العربية، وبعد تقديم هذا المثال المكثف، وإلا، من الممكن أن نجد العديد من التجارب لدى العديد من الدول التي جعلت من سؤال التربية والتعليم، سؤالا جوهريا في كل مخططاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، الخ، ونسائلها، هل هي فعلا تتساير مع ما خططناه للمتعلمين؟ لنطرح السؤال التالي: هل من الممكن أن نعثر على أمتعة المتعلمين، في ممراتها دون وضعها في صناديق مغلقة؟ هل دراجاتهم الهوائية (إن وجدت لهم)،غير مقفلة؟ هل توظف في بناء المحيط الذي توجد فيه؟ هل هي صالحة للحلم التربوي والجمالي؟ هل تساهم في بناء شخصيتهم؟ .. فضاءات جميلة أسئلة عديدة من الممكن طرحها، وطبيعة طرحها هنا، من الممكن أن يساعدنا على القبض على عناصر مهمة من الإجابة، لنفكك طبيعة المدرسة التي نتعلم فيها كمكان. كيف أحوالها؟. عديدة هي المدارس التي من الممكن القول عنها، إنها، أصبحت في حكم زمن غير زمنها الحالي، أي، أنها لا تستجيب للعديد من المكونات الفنية والجمالية الممارسة لأثرها في سلوك المتعلم، لجعله يتلذذ تعلمه طيلة المدة الزمنية التي يقضيها في هذه المدرسة. لننتبه إلى أبواب مدراسنا وكيف أن الخوف من سرقتها حاضر لدى من يدير أمرها؟ مما يجعل جزءا من ميزانيتها يذهب إلى إحكام إغلاقها بأبواب حديدية قوية ووضع شبابيك حديدية على أقسامها وإدارتها بل، ونجد حارسا أو حراسا ليليين يحرسونها، الخ. فهل المدرسة تسرق؟. المجتمع الذي تسرق فيه المدرسة، يبدو، لي أنه لا زال بعيدا كل البعد عن أي نهضة حقيقية، بل، سارق المدرسة لا تربطه بهذه المدرسة أي صلة، إذ لو علم وكون وتمدرس بالشكل المطلوب، ما مارس هذه السرقة ككل. يبدو، لي أن خلخلة حقيقية تنتظر مدارسنا من أجل أن نجعل منها فضاءات جميلة للتعلم وتوظيفها طيلة أيام الأسبوع في بناء شخصية المواطن من خلال التدرب والتعلم على العديد من الأنشطة التي تحتاجها البلاد، عوض أن نجدها مغلقة خلال العطل المدرسية وبعد توقف الدراسة بها. إنها وظيفة حياتية تنتظر مدارسنا عليها أن تقوم بها، من خلال ربط الحي بالتعلم والحاجيات المجتمعية ككل. لابد من التفكير في ترميم مدارسنا وفق معيار الجمال، والذوق الجالب للمتعلم والجاعل منه كائنا محبا لقيم المعرفة والوطنية والقيم الدينية المعتدلة والمتسامحة مع بقية الديانات السماوية أو غيرها، بل، ومتعايشة مع جميع الكائنات الإنسانية في هذا العالم. إنها خلخلة علينا أن نأخذها مأخذ الجد حتى في البنايات الجديدة التي تقدم بلداننا على بنائها، بمعنى على مهندسنا المعماري أو من يبني هذه المدارس أن يكون مدركا لقيمة المكان كسلطة فنية ممارسة لأثرها على المتعلم جاذبة إياه لكي يتعلم، وجاذبة غيره لكي ينظم أنشطته المتعددة بها والهادفة إلى تطوير ذلك الحي الذي توجد فيه المدرسة، مما يجعلها مشتلا مجتمعيا مصغرا فيه تولد الأفكار ويتم التخطيط لإنجازها وتطويرها الدائم لاسيما في هذه العولمة التي لا تغازل أحدا ولا ترحم، وحيث العرب، وكما قال الشاعر أدونيس مهددون بالانقراض إن لم يبنوا مجتمعاتهم على رؤية فكرية علمية حداثية تبعدهم عن العديد من العوائق التي لازالت تعرقل سيرهم نحو البحث عن مكان آمن تحت شمس هذا العالم. القدس العربي