ما كان حلما بالأمس القريب أصبح حقيقة اليوم، فلِمَ لا يكون حلمنا اليوم حقيقة غدا؟ إنّ التطور المذهل لوسائل الإعلام والاتصال، والقفزة النوعية التي تشهدها التكنولوجية الرقمية كفيلان بالإجابة عن هذا السؤال. لقد مرّ التعليم في الجزائر على غرار التعليم في العالم بمراحل مختلفة، مرتكزا على المحاور الأساسية لعملية التعلم والتعليم التقليدية: (المعلم، المتعلم، المادة التعليمية). سواء بملازمة أحد العلماء لفترة معينة، أو بالتردد على حلقات الأئمة والعلماء بالمساجد ودور العلم، أو بمزاولة الدروس بمدارس مهيكلة خصيصا لهذا الغرض. ما يميز هذا التعليم التقليدي، علاقة اتصال المعلم بتلاميذه، حيث لا تضاهيها وسيلة اتصال أخرى، بين شخصين أو أكثر. يلتقيان وجها لوجه، فتجتمع الصورة والصوت، الحركة والمشاعر والأحاسيس التي تقوم جميعها بنقل المادة التعليمية وإيصالها إلى المتلقي، يحصل التأثير فيتم التعلم وتعديل السلوك.. إعداد عثمان آيت مهدي إضافة إلى هذه العلاقة هناك علاقة أخرى لا تقل حميمية من الأولى تربط المتعلم بالكتاب، يحمله كالابن المدلل بين كفيه، أو يجلسه على الطاولة مداعبا صفحاته محدقا صوره، منصتا، قارئا، مرددا نصوصه. إلا أنّ تعميم التعليم بعد الاستقلال وتزايد العدد الهائل من المتعلمين على المدارس، أصبح الطلب على العلم تحد للجميع، وتوفير المقاعد الدراسية والمؤطرين للعملية التربوية من إداريين ومعلمين وعمال يثقل كاهل الدولة، وتقديم تعليم ذي نوعية لجميع أبناء الوطن المتمدرسين يؤرق التربويين ويدفعهم إلى مزيد من الجهد والتنقيب عن أنجع السبل لتحقيق الجودة في التعليم. إنّ هذه المعادلة (المعلم، المتعلم، والمادة التعليمية) أضحت مكلفة وصعبة التحقيق، من منظور التعليم التقليدي للأسباب التالية: 1. الانفجار المعرفي الهائل الذي يشهده العصر الحديث. 2. الطلب المتزايد على مقاعد الدراسة بسبب الانفجار السكاني. 3. نقص التأطير البيداغوجي وقلة المؤهلين تربويا لعملية التعليم. 4. قلة الاهتمام بالفروق الفردية بين التلاميذ، مما يسبب هدرا وتسربا مدرسيا كبيرا. هذه الأسباب وغيرها، تجعل التعليم التقليدي غير قادر على مواكبة التطور الحاصل في ميدان العلم والمعرفة. والبحث عن وسائل تربوية ناجعة تسد النقائص وتذلل الصعاب وتعطي دفعا جديدا لعملية التعلم والتعليم هي عند التربويين أكثر من ضرورة. لم يعرف عصر من عصور الإنسانية جمعاء تدفقا علميا وانفجارا معرفيا مثل العصر الذي ظهر فيه الحاسوب كأداة تربوية لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها تتميز بخاصية لا توفرها وسيلة أو أداة تربوية أخرى، وأعني بذلك (التفاعلية) حيث يستجيب الحاسوب لكل عملية صادرة من المتعلم بناء على المعطيات المقدمة له في أيِّ علم من العلوم، بالدقة والوقت اللازمين. الحاسوب هو آلة مساعدة للعقل البشري في العمليات الحسابية والمنطقية، لديها القدرة على إدخال بيانات بها وإجراء عمليات عليها بواسطة برنامج من التعليمات، وتخزينها واسترجاعها كمخرجات بسرعة فائقة، كما يمكن تزويدها بتغذية راجعة لإجراء التعديلات التي نراها مناسبة. نستكشف من هذا التعريف أنّ للحاسوب إمكانية تقديم أشكال تعليمية متنوعة، هي: 1. مصدر هام للمعلومة من خلال ما تحويه الأقراص المضغوطة وما يخزنه القرص الصلب من معلومات لا حصر لها. 2. أداة تعليمية هامة، تساعد على التدريب والتعليم وتقلل من الوقت المهدور. 3. معلم متميز، يتولى عملية التعليم والتدريب في ظروف خاصة أو عامة، لا سيما في حالات الفروق الفردية. قد يكون الشكل الأخير وأعني (المعلم المتميز) ما يزال في طور التحضير والتبلور، إلا أنّ البعض يوظفه بما يناسب بيداغوجيا الفروق، حيث يقدم خدمات جليلة للتلاميذ الذين يحتاجون إلى رعاية واهتمام كبيرين من خلال تصميم برامج متنوعة موجهة لذوي الاحتياجات الخاصة أو بطيئي التعلم أو في تعليمية المواد الدراسية... الشكلان الأول والثاني، فقد أخذا مكانهما ضمن المنظومة التربوية، وأولت لهما الدولة عناية فائقة بإدخال مادة الإعلام الآلي ضمن المقررات الدراسية، وتخصيص قاعات في معظم المؤسسات التربوية لتدريس هذه المادة، مجهزة بالوسائل اللازمة. إنّ التعليم بواسطة الحاسوب هو وسيلة مساعدة في العملية التعليمية، يستخدم كوسيط لعرض بعض المقررات الدراسية التخصصية المتنوعة، وعرض بعض المعلومات التي يمكن استخدامها في المواقف التعليمية المختلفة، كما يساعد على أداء بعض المهارات وإتقانها، فضلا عن تقديم الاختيارات العديدة بواسطته من أجل تسهيل وتيسير اكتساب المعلومات والمعارف الدراسية. أثبتت معظم التجارب التي أجريت على التحصيل الدراسي باستخدام الحاسوب تفوّق التلاميذ الذين تعلموا بواسطة هذه الآلة، وإن كان الاختلاف ما يزال مطروحا في مدى ضعف أو قوة تفاعل بعض الشعب والتخصصات مع هذه الآلة. في بعض الدراسات تؤكد تفوق الشعب العلمية على الشعب الأدبية، وفي دراسات أخرى تؤكد عدم وجود فروق بين التخصص الأدبي والتخصص العلمي. أما عن الدراسات التي اهتمت بالمعلم فقد أكدت ضرورة تدريب كافة المعلمين على الإفادة من إمكاناته في توصيل المادة العلمية التخصصية به. هذه بعض الفوائد التي يمكن أن يشترك في جنيها جميع المتعلمين من الحاسوب: 1. المشاركة النشطة لكل متعلم من خلال الاستجابة الظاهرة التي يتطلبها الحاسوب منه. 2. يسمح الحاسوب بالتقدم المنتظم في المادة التدريسية لكل تلميذ على حدة، وفقا لقدراته واستعداداته. 3. يوفر الحاسوب تعزيزا آنيا للاستجابات السلوكية المرغوب فيها، عكس التدريس التقليدي الذي يتلقى فيه المتعلم تعزيزا من خلال أوراق الإجابة التي تعاد إليه بعد أيام من الاختبار. لهذا وذاك أوصى العلماء والتربويون بتعميم استعمال الحاسوب كوسيلة للتعليم في جميع المراحل التعليمية، من الابتدائي والمتوسط إلى الثانوي والجامعي، في شتى التخصصات الأدبية والعلمية، نظرا لأهميته في تزويد الفرد بالمعلومات العلمية اللازمة التي تساعده على التواصل الحضاري. إنّ توافر التكنولوجيا يعني تسهيلا لتعليم أفضل يساير طموحات وأمال المجتمعات، لذلك لم يتوقف العلماء والتربويون عند التعليم بواسطة الحاسوب بل فكروا في أساليب أخرى تساهم في تحقيق العملية التعليمية وتعميمها على نطاق واسع، فظهر التعليم عبر البث الفضائي التلفزيوني، أو الإذاعي، التعليم الافتراضي، التعليم الإلكتروني عبر الانترنت وغيرها من الأساليب التي أحدثتها التكنولوجيا لتناسب حاجات الأفراد إلى التعلم واكتساب المهارات، كما توفر تعليما لقاعدة كبيرة من المتعلمين الذين يرغبون في التعلم حسب أوقاتهم والأساليب التي يختارونها عبر التكنولوجيا المتوفرة. وهذا ما سهل ظهور المدارس المفتوحة، والجامعات الافتراضية المدارس الإلكترونية، وغيرها من المسميات. إنّ التعليم في المدرسة الإلكترونية لا يعتمد على المواجهة المباشرة عن قرب بين المعلم والمتعلم، وإنما يعتمد على المواجهة غير المباشرة في اكتساب المعرفة والمهارات المتنوعة، ويتم ذلك بواسطة مجموعة من التقنيات المتطورة والمتنوعة (شبكة الانترنت) سواء أكانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، تغني عن وجود المعلم داخل القاعات الدراسية. تجمع (الأنترنت) الشبكة العنكبوتية بين الملايين من الأجهزة الحاسوبية عبر العالم، تتصل فيما بينها وتتواصل، تتبادل المعارف والمعلومات، الصور والأفلام، الحديث والرسائل بشكل آني وسريع. هذا الاتصال السريع سهل كثيرا عملية انفجار المعلومات وانتشارها في كل أصقاع المعمورة، وسهولة الوصول إليها، فتحولت في ظرف وجيز إلى مصدر للمعلومة لا يمكن الاستغناء عنها، ووسيلة لتبادل المعارف والخبرات بين المؤسسات والأفراد، إلى جانب مزايا أخرى شجعت التربويين على استخدامها في التعليم، والاستفادة من خدماتها المتمثلة في: 1. الكم الهائل من مصادر المعلومات، مثل: الكتب الإلكترونية الدوريات - قواعد البيانات الموسوعات - المواقع التعليمية.. 2. الاتصال غير المباشر (غير المتزامن): بحيث يستطيع الأشخاص الاتصال فيما بينهم بشكل غير مباشر، دون اشتراط حضورهم في نفس الوقت، باستخدام: البريد الإلكتروني البريد الصوتي.. 3. الاتصال المباشر (المتزامن): عن طريقه يتم التخاطب في اللحظة نفسها بواسطة: التخاطب الكتابي - التخاطب الصوتي - التخاطب بالصوت والصورة (المؤتمرات المرئية). لقد أثبتت هذه الشبكة الإلكترونية قدرتها كوسيط فعال في التعليم الإلكتروني، حيث ربطت بين المؤسسات التعليمية وجعلت منها صفا دراسيا واحدا يجتمع فيه المتعلمون والمعلمون على الرغم من التباعد الجغرافي بينهم. وما أكثر المواقع التعليمية على الشبكة العالمية الأنترنت المهتمة بالتعليم الإلكتروني. إلى جانب هذه الخصائص المميزة للتعليم الإلكتروني، هناك أسباب وعوامل تشجع القائمين على العملية التعليمية على توسيعها لا سيما في القرى والأرياف والأماكن النائية التي تفتقر إلى وسائل النقل. 1. عدم الاعتماد على الحضور الفعلي: فالطالب لا يتقيد بوقت محدد ولا مكان معين. 2. الاستفادة من عنصر الزمن: عدم تقيد الطالب بجدول زمني محدد يجعله بمنأى عن ضغط الوقت، وبالتالي الاستفادة منه بشكل كبير. 3. توفر المناهج طوال اليوم وطوال الأسبوع: هذه الخاصية لا توفرها المدرسة، وتناسب أكثر الطلبة المزاجيين أو الذين يحبذون وقتا معينا للدراسة. 4. توفير المرونة في التعلم من خلال مراعاة الفروق الفردية. فالطالب يتعلم بالسرعة والوقت الذين يختارهما. 5. تقليل حجم العمل في المدرسة: التعليم الإلكتروني يخفف من عناء تحليل وتقويم نتائج اختبارات الطلبة، وكذلك عملية التسجيل واستلام الملفات... 6. تقليل الأعمال الإدارية والتربوية للمعلم: كاستلام الواجبات ووثائق الامتحانات وغيرها، ويصبح من الممكن تسلمها عبر الوسائل الإلكترونية.. 7. إمكانية الاتصال بين الطلبة فيما بينهم، أو بين الطلبة وإدارة المدرسة: يتبادلون الأفكار والرؤى في مجالس النقاش، مما يحفزهم على التفاعل والتواصل بينهم. 8. الشعور بالمساواة: تواصل الطالب مع زملائه أو مع إدارة المؤسسة يشعره بالمساواة مع الآخرين والحرية في إبداء الرأي وطرح الأسئلة.. وهذه الخاصية تناسب الذين يشعرون بالخوف والخجل.. لا يمكن أن نتصور عملا مستقبليا بهذا الحجم دون عوائق وعراقيل تعترضه، لا سيما وأنّ تجارب عديدة في البلدان الغربية مثل كندا، كوريا، وأمريكا.. قد عانت من مشاكل كثيرة من أجل تجسيد هذا المشروع المستقبلي على أرض الواقع. من هذه العراقيل: 1. التحدي التقني المتمثل في: - كيفية التعلم بواسطة التقنيات الحديثة. - صعوبة مواكبة التطور الحاصل لتقنيات الحاسوب. 2. ضعف البنية التحتية للاتصالات في بعض الدول مما يترتب عليه ضعف في الشبكة العنكبوتية. 3. حاجز اللغة المستخدمة بقوة في عالم الأنترنت أو الإعلام الآلي وهي اللغة الإنجليزية. 4. العامل الاقتصادي المتمثل في: - تكلفة وتمويل المشروع من طرف الدولة. - القدرة الشرائية للمواطن. 5. استعداد المتعلم لتقبل مشروع المدرسة الإلكترونية بديلا للمدرسة التقليدية. لقد جعل الورق تسجيل المعلومات سهلا يسيرا، وساهمت المطبعة في توفير الكتاب لمعظم التلاميذ. فهل يصبح الحاسوب معلما متميزا في كل قسم أو في كل بيت؟ ويحل محل المعلم الذي كاد أن يكون رسولا؟ لن يحدث هذا الأمر على الأقل في المدى القريب لأن طريق المعلومات السريع لن يحل محل من أبدع في صنع هذه الآلة العجيبة، ولا يقوم مقام من ساهم ويساهم في تطويرها، وإثرائها بالبرمجيات المتعددة الخدمات وفي جميع التخصصات، أو يحجم أهمية أيّ من الكفاءات التعليمية الإنسانية التي نحتاج إليها من أجل تحديات الغد. ولن يحدث تغيّر فجأة وعلى حين غرة، فعلى مستوى الشكل، ستظل الأنماط الأساسية للتعليم كما هي، الطلاب يواصلون الذهاب إلى المدارس، والإنصات إلى المدرسين وطرح الأسئلة والمشاركة في الأنشطة الفردية والجماعية، وأداء الواجب المنزلي. أما مستقبلا فلن يفك أغلال هذا السؤال الصعب إلا البحث المتأني والمعمق في دور الحاسوب في حياة التلميذ ومدى تأثيره عليه، ومدى تقبل هذا الأخير له والتفاعل معه. وفي انتظار ما تسفر عنه بحوث العلماء حول هذه العلاقة الافتراضية بين المتعلم والحاسوب، لا بأس أن نشير إلى أنّ التطور الرهيب في تكنولوجية الإعلام والاتصال يسد علينا طريق العودة إلى التعليم التقليدي، وبالمقابل يفتح لنا أبوابا واسعة لولوج عالم المدرسة الإلكترونية، فلا مجال للتخوف.