ولّى عهد الدراسات النفسية التي لا تعترف بالدين، أو تعتبره مجرّد مرضٍ عصابي، كما هي الحال في مدرسة سيغموند فرويد، فما يؤكّده الأستاذان التركيّان (في قسم النفس في جامعة مرمرة التركية)، علي كوسه، وعلي إيتان، في كتابهما الموسوعي “علم النفس الديني (ترجمة عبد الصمد طيبي، جامعة حمد بن خليفة، الدوحة 2020) هو أنّ المقاربات الجديدة في علم النفس تردّ الاعتبار لأهمية العامل الديني، ليس فقط من زاوية أهميته في التحليل النفسي، ولا من زاويةٍ مغايرةٍ تماماً لفرويد ونظرياته، بل أيضاً بوصف الدين مفتاحاً مهماً في دراسة الشخصية الإنسانية وعلم النفس. إذا نظرنا إلى ثلاثٍ من المقاربات البارزة في علم النفس، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، نجد أنّها تحمل مقارباتٍ جديدةً لفهم الدين والعلاقة بينه وبين علم النفس والشخصية، بداية من المقاربة الإنسانية في علم النفس، مروراً بعلم النفس الإيجابي، وصولاً إلى علم ما وراء الشخصية الذي أسسه أبراهام ماسلو، لكن بإفادة كبيرة من علماء كبار في علم النفس، مثل أريك فروم، وكارل يونغ، وفيكتور فرانكل، صاحب مدرسة فينا الثالثة، أو ما يسمى العلاج بالمعنى، وغيرهم. القائمة تطول لعلماء النفس الذين أخذوا هذا المسار، ويقدم الكتاب ملخصاً لآرائهم في علم النفس والدين. وقد تطرّق الكاتب، في مقالٍ سابق، إلى “مجتمع المعرفة”، وضرورة أخذه بالاعتبار (عندما تحدثنا عن سيمنار العالم الكندي كانتول سميث، الذي أحدث قفزة نوعية في دراسة التصوّف في الغرب، وتطوير مقارباته والتأثير على صناعة القرار هناك). وهذا الكتاب يلفت الانتباه، في بعض إشاراته، إلى وجود مثل هذا الجهد المعرفي في علم النفس الديني، ودراساته وأبحاثه ومفاهيمه، في تركيا، من خلال مجموعة من العلماء والباحثين الذين اهتموا بهذا الموضوع، ومنهم مؤلفا الكتاب وغيرهما، وهم يشيرون إلى مصطفى مارتر، ويعتبرونه ممثلاً لمدرسة ما وراء الشخصية في تركيا. وبالمناسبة علم ما وراء الشخصية، وهناك جمعية عالمية في علم النفس متخصصة فيه، ومجلة علمية محكّمة، وأنصار له في دول عديدة، بالرغم من حداثة التخصص، يحاول الجمع بين ما “يتطرّق الكتاب إلى أنماط التديّن وحيثياته ومقاييسه، وظواهر التحول الديني والالتزام الديني” تسمى حكمة الشرق الروحية ومعرفة الغرب العلمية، ويتعامل مع موضوعاتٍ عديدة، مثل الروحانيات، والعلاج بالمعنى، والتأمل والتفكّر وغيرها من مفاهيم عديدة نجدها، كما يشير الباحثان، مزروعةً في كتب علماء مسلمين كبار، مثل ابن سينا والغزالي والفارابي وابن طفيل وغيرهم. يتطرّق الكتاب إلى أنماط التديّن وحيثياته ومقاييسه، وظواهر التحول الديني والالتزام الديني، والباراسيكولوجي وقضايا الخرافات والعلاقة بين التديّن والروحانيات، ويشير إلى جهود جديدة في العالم الإسلامي لبناء تصوراتٍ خاصة بعلم النفس الديني. ولكن من الواضح أنّ الباحثين غير مطّلعين على جهود أخرى مهمة في هذا المجال، ومنها، على سبيل المثال، ما كتبه أستاذ الفلسفة المصري، عامر النجار، في مجال “التصوّف النفسي”، وكانت في الأصل أطروحته للماجستير، ويتناول فيها موضوعات وقضايا عديدة تطرّق لها الكتاب، ويتم تناولها عبر المقاربات الجديدة في علم النفس. ومن القضايا المهمة التي يأتي عليها الكتاب بعض المفاهيم الدينية والعقائدية، والتمييز بين التدين الروحاني والخرافات، والتربية الدينية السليمة، وما يسمّيها كوسه، في أحد نصوصه في الكتاب، “الجرعة السامّة” المتعلقة بالمفاهيم الخاطئة في التربية الدينية. يقول: “يركز المجتمع في التعليم الديني على الخوف بدلاً من الحب، ونحن نبني صورة الله في أذهاننا من خلال الخوف، فكثيرا ما نستخدم، على سبيل المثال، ونحن نخوّف أطفالنا إذا ما ألقوا فتات الخبز على الأرض جملاً من قبيل (الله سيحرقك بالنار، أو الله سيمسخك حجراً).. فعقولنا مبرمجة دائماً على تصور الله في الجانب العقابي.. إلخ”. الخلاصة أن مثل هذه التطورات المهمة في علم النفس يمكن أن تفتح المجال واسعاً ليس فقط علمياً، بل حتى عملياً في مجال ترسيم دور الدين في المجال العام، والتعاطي مع موضوعات التطرّف الديني والفراغ الروحي لدى الشباب، وسجالات التنشئة الاجتماعية وغيرها، ويحل إشكالات عديدة ارتبطت بالانفصام غير المنطقي ولا المبرر بين العلوم الاجتماعية والباحثين والمتخصصين في هذا المجال من جهة والدين من جهةٍ أخرى. وهذا يقود إلى مشكلة حقيقية، أنّ أغلب جامعاتنا وكلياتنا في العلوم الاجتماعية، بخاصة علم النفس، لا تزال أسيرة مرحلة، أو حقبة، من المعرفة العلمية، لم تتجاوزها، وهو ما يعيدنا مرّة أخرى إلى أهمية ردم الفجوة الكبيرة بين البحث العلمي، بخاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية من جهة والتطورات في مجال المعرفة ثانياً، والتحولات الكبيرة التي تحدث في مجال العلوم الاجتماعية من جهة أخرى، فمثل هذه الفجوة المعرفية – العلمية – البحثية هي الأخرى مسؤولة عن غياب الحلول أو القراءات الصحيحة للتحدّيات والأزمات واستراتيجيات الخروج منها. العربي الجديد