بعد فشل المنظومة الصحية العالمية في الاستجابة للتحدي الهائل الذي فرضه فيروس كورونا يرى العديد من المراقبين أن أهم ما يؤرق أصحاب القرار في العالم هي التداعيات الاقتصادية وليست الخسارة البشرية الكبيرة المتوقعة الناتجة عن تلك الأزمة. وأصبح هاجس استدعاء ما حصل من أزمات مالية واقتصادية في أوائل القرن الماضي بداية بالكساد العظيم في عام 1929 وما تلاها في القرن الحالي من أزمة الركود الكبير فى عام 2008 يشكل الدافع الأساسي وربما الوحيد في التعامل مع أزمة كورونا لجهة اعتبارها أزمة اقتصادية في المقام الأول قبل أن تكون أزمة نتيجة تخلف قطاع الرعاية الصحية. ..الأزمتان الماليتان العالميتان المثير أن كلتا الأزمتين الماليتين العالميتين انطلقتا من مكان واحد ألا وهو الولاياتالمتحدة. ففي الأزمة الأولى أي أزمة الكساد العظيم والتي استمرت تداعياتها لأكثر من عشر سنوات منذ 1929 وحتى عام 1939 والذي كان السبب المباشر فيها هو انهيار سوق الأسهم في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر بعد موجة بيع تجاوزت 12.9 مليون سهم في يوم واحد فقط مما أثر سلباً على الأسواق العالمية، وهو ما أدى لاحقا إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 15 في المئة وزيادة البطالة إلى 25 في المئة وانخفاض الأجور بنسبة 42 في المئة ودخل العالم في دوامة انكماش لم يسلم منها حتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى عام 1946 حيث خرجت أمريكا بعد الحرب كأكبر قوة اقتصادية في العالم حيث دفعت أوروبا وقتها فاتورة الحرب الاقتصادية والبشرية. ..أزمة الرهن العقاري أما الأزمة الثانية فقد نشأت فعليا منذ عام 2007 واستمرت حتى 2009 بعد إفلاس عدد من البنوك الرئيسية فيما عرف بأزمة الرهن العقاري. استطاع الاقتصاد الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة استيعاب صدمة الكساد العظيم أو الكبير بتبني سياسات مالية ونقدية مما سمح للحكومات في التدخل المباشر في النشاط الاقتصادي والانتقال من مدرسة الاقتصاد الحر لآدم سميث إلى مدرسة الاقتصاد المختلط على يد جون ماينارد كينز الاقتصادي البريطاني الشهير. ومع أن التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا جاءت سريعة إلا أننا نستطيع القول أن الأزمة أصبحت تعبر عن نفسها في مسارين متوازيين. الأول مسار الانكماش الاقتصادي كنتيجة لاجراءات العزل الصحي. الثاني مسار تسارع وتيرة الخسائر البشرية كنتيجة للتأخر في إجراءات العزل الصحي. وكلا المسارين ربما يعبران أكثر عن أعراض الأزمة وليس عن الحلول لتلك الأزمة. ويبدو أن صناع القرار في حيرة من أمرهم وهم على مفترق طرق خطير. ففي ظل الإخفاق الفاضح في قطاع الرعاية الصحية عند معظم الدول نجد من يروج للتغطية على هذا الفشل بتعظيم حجم الكارثة الاقتصادية على حساب الكارثة الإنسانية وأن التركيز على إنقاذ الاقتصاد يبرر التغاضي عن الخسارة البشرية أو على الأقل التضحية بالمرضى وكبار السن كثمن مقبول لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور على أساس أن المشكلة في الأساس لم تكن في اهتراء مؤسسات الرعاية الصحية. ترى هل فشل النظام الرأسمالي الذي يحكم العالم بشقيه الشرقي ذي النكهة الشيوعية بقيادة الصين وروسيا والغربي بقيادة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي في امتحان الاقتصاد والصحة معاً؟ هل سيختار التضحية بالإنسان من أجل استمرار حكم النخب التي تحتكر رأس المال؟ أم أنه لم يعد يمتلك رفاهية الاختيار وأن التحدي تجاوز قدرته على الحل؟ لكن يبقى التساؤل إذا استطاع الوباء أن يجرف ذلك النظام وآلياته المعطوبة فمن ذا الذي يستطيع أن يدعي أنه سيرث الأرض ومن عليها؟ القدس العربي