مرت أحداث وأزمات، ورحل من رحل من مفكرينا ومثقفينا، وغادرونا، ولم يدركوا حجم ما جرى وتصدعاته التي عمت أماكن متعددة في عالمنا العربي، ولو شهدوا شيئاً من مجرياتها، وتسارع وتيرتها، لانعكس ذلك بالتأكيد على طروحاتهم من نظريات وآراء. هم عاصروا مراحل مفصلية في تاريخنا ساهمت في تشكل مسارهم الفكري، بدءاً بالاستعمار، والمد القومي، والانقلابات العسكرية، والصراع العربي – الإسرائيلي، والحرب الباردة، والقطبية، وإفرازات العولمة. كانت جهود أولئك المفكرين وغيرهم تدور حول إعادة توهج حضارتنا، فطرحوا حلولاً للوصول إلى النهضة عبر مفاهيم وتصورات، إما على شكل مشروع فكري، أو رؤية فلسفية، أو بحث ممنهج. ومع ذلك واجه بعضهم من الاتهامات والتشنيع أكثر مما واجهه المفكر الأوروبي قبل الثورة الفرنسية. ومع ذلك الغرب اليوم، شئنا أم أبينا، هو من يملك الأدوات والقدرات للسيطرة، ومن يجحد ذلك لا ينتمي إلى عالم الواقع. علينا أن ننسلخ من أن الغرب يتربص بنا أو بالإسلام، فالغرب لا يعنيه شيء إلا مصالحه، وعلينا أن نعامله بالمثل، ونتخلص من عقلية تعليق أخطائنا وضعفنا وتخلفنا على شماعة الغرب. ولذلك ليس بالضرورة أن نرفض الثقافات الأخرى بالمطلق، ولا أن نقبلها بالمطلق، بل نستوعبها لنستفيد منها دونما تفريط في ما نملكه من مقومات وركائز. رحل الرواد، ولم يدُر بخلدهم إمكانية حدوث ما نعيشه اليوم من أحداث وتحولات ومجريات، فهذا المفكر المغاربي الكبير محمد عابد الجابري، على سبيل المثال، كان أن انتقد في كتابه «الخطاب العربي المعاصر» الأحلام الثورية التي راهن عليها التيار اليساري لإحداث تغيير حقيقي للمجتمعات العربية. الكثيرون يشعرون أننا ما زلنا عاجزين وغير قادرين على المنافسة، إلا أنه من باب الإنصاف يجب أن نعترف أن ثمة محاولات كانت قد ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، كموسوعة أحمد أمين الثلاثية لتدشن مشروعاً فكرياً آنذاك في استيعاب التراث. كما أن طه حسين أيضاً كان من ضمن الأوائل الذين سعوا لتأسيس فكر مختلف بطرحه كتبه «في الشعر الجاهلي» و«الفتنة الكبرى» و«مستقبل الثقافة في مصر». توالت جهودهم آنذاك في طرح محاولات أقل ما يقال عنها إنها جادة، وسعت إلى تحرير العقل العربي من كل القيود التي تكبله. نذكر منها ما قام به المفكر المغربي عبد الله العروي من شرح وتعريف في المفهوميات وتساؤلاته حول التيارات العلمية والسلفية والليبرالية في الثقافة العربية، ناهيك عن المفكر المصري الكبير زكي نجيب محمود، ومشروعه في تجديد الفكر العربي، ومنهجه التوفيقي ما بين الأصالة والمعاصرة، وكذلك السوري الطيب تزيني، والمصري حسن حنفي، ومشروعه التراث والتجديد، واللبناني حسن مروة، والتونسي هشام جعيط، وجهود محمد أركون الذي أفنى معظم عمره في مشروعه «نقد العقل الإسلامي»، وبمنهج أركيولوجي، مشيراً إلى أن غلق باب الاجتهاد ساهم في ظهور الفكر المتشدد. تأمل تلك المشاريع يثير الطرح النقدي واللحاق بركب العصر، فالوسطية في الإسلام لا تُقر طرحاً عدائياً مع الغرب، بل تنادي بمفاهيم التعايش والتسامح والحوار، والحضارة الغربية كمضامين تدعو إلى المفاهيم ذاتها. من باب الإنصاف نقول إن محاولاتهم سعت للتنوير وتوسيع الإدراك والتثقيف، ولا أحد ينكر أن المفكرين العرب المعاصرين قاموا بالنقد الموضوعي للتجربة السياسية والآيديولوجيات، وساهموا في تكريس قيم العقل والحريات والتعددية، وإنْ بطريقة غير مباشرة في تهيئة الظروف الملائمة للتغيير، شأنهم شأن مفكري التنوير الأوروبيين الذين غيروا بمقولاتهم الفلسفية ونظرياتهم الاجتماعية العالم الغربي. صحيح أن البعض يرى أن شباب الميادين وجيل السوشيال ميديا لم يتأثروا بما طرحه أولئك الكبار، ولم يأخذوا مما نهله الجيلان السابقان: أصحاب التحرير الوطني وأبناء المد القومي، ما قد يثور تساؤل هنا عن قدرة تلك الطروحات الفكرية في شحذ الإنسان العربي، ودفعه للتحرك، ليتولد عنها احتجاج حركي فاعل ومنتج. ليس بالضرورة أن يكون التغيير للعمل السياسي عن طريق الحراك الشعبي، الثورة، فمفكر كالعروي صاحب نهج الماركسية الموضوعية، أو جعيط المعروف بنقده الرصين للفكر القومي العربي؛ كلاهما لا يعتقدان بضرورة الحركية الثورية في العمل السياسي لأسباب عدة ومطولة نجملها في ضعف الدولة القائمة، وهشاشة النخب، وبطء مسار التحديث، وغلبة العصبوية الدينية والاجتماعية، ما يعني أن الحراك الشعبي الثوري قد يؤدي إلى الفتنة الأهلية والدمار. كل هذه المشاريع الفكرية سعت للمناداة باستيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب، من حيث المسافة التاريخية، وكيفية استيعابها، وشددوا على أن خريطة الطريق لتلك الرؤية، وردم الهوة الشاسعة، تقتضيان أن تكونا متزامنتين مع تنوير فكري، وتطوير تقني، وإصلاح للخطاب الديني، ليكون متسقاً مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الأوروبية التي استطاعت أن تنتقل للديمقراطية بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك، في حين يعتقد مفكرون آخرون أن المعضلة تتعلق بنقد وتكوين وبنية العقل العربي على اعتبار أنه منتج هذه الثقافة التي هي وفق رؤيتهم المهيمنة على وعي أفراد المجتمع. وفي كل الأحوال المشروع الفكري التنويري بمقدوره ابتكار الجديد، وتطوير ما هو قائم، ومواجهة فضاء الآيديولوجيات المتصارعة والتيارات المتناحرة، وليس الحراك الثوري الذي يؤدي إلى الصدام والخسارة في المكتسبات والكيانات، ناهيك عن الأرواح. القدس العربي