المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا للتوصل إلى اتفاق ينظم انسحاب الأخيرة من الاتحاد، وصلت إلى طريق مسدود. وليس متوقعا أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق قبل حلول الموعد النهائي لمغادرة بريطانيا بحلول نهاية العام، والأرجح أن بريطانيا ستخرج دون اتفاق. وقد بلغ الأمر من الخطورة واليأس أن وزارة الدفاع البريطانية أمرت أربع سفن حربية بالاستعداد لحماية السواحل البريطانية من زوارق الصيد الأوروبية المتجاوزة على المياه البريطانية!. قد يبدو الأمر مزحة لكثيرين، لكن تلويح بريطانيا باستخدام أسطولها لتفتيش زوارق الصيد الأوروبية، ينبئ بدرجة اليأس التي بلغتها الحكومة البريطانية في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، إذ تحاول الضغط بشتى الطرق من أجل التوصل إلى اتفاقية تجارية قبل الأول من يناير المقبل. وزير الدفاع البريطاني السابق، توبياس ألوود، الذي يترأس لجنة الدفاع في مجلس العموم، وصف الإجراء بأنه "غير مسؤول" وقال إن مثل هذه الأخبار تصرف النظر عن المفاوضات الجارية حاليا للتوصل إلى اتفاقية ترضي الطرفين، وتنظم العلاقة بينهما بعد الانفكاك النهائي في 31 من الشهر الجاري. وقال ألوود "لم نعد نعيش في العصر الأليزابيثي كي نتصرف بهذه الطريقة. نحن نعيش في عصر العولمة". بينما سخر حمزة يوسف، وزير العدل في حكومة أسكتلندة، التي تتمتع بحكم ذاتي، من الإجراء البريطاني ووصفه ب(دبلوماسية الزوارق)! وقال إن هذه السياسة غير مرحب بها في المياه الأسكتلندية، مضيفا أن حكومته سوف تحمي المياه الأسكتلندية، لكنها لن تهدد الحلفاء الأوروبيين، ولا الأعضاء في حلف الناتو "ولن تُغرِق زوارقَهم"!. وتستعد بريطانيا هذه الأيام للعيش مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، بما يعنيه هذا الاستقلال من عزلة وبطالة وقيود على السفر والتجارة والصيد، وشح في المواد الضرورية في الأسواق. صحيح أن القيود الحالية، المفروضة بسبب جائحة كورونا في معظم دول العالم، قد تختلط مع القيود التي يفرضها الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، لكن بريطانيين كثيريين قلقون جدا من نتائج الانسحاب وآثاره البعيدة الأمد على الاقتصاد. بالنسبة للمحافظين، المسألة تتعلق ب(السيادة) فحسب، وأي خسارة اقتصادية أو قيود على التجارة يمكن تحملها مقابل استعادة (السيادة). أما بالنسبة للجيل الجديد، خصوصا أولئك الذين ولدوا بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي في الأول من نوفمبر عام 1993، وفق معاهدة ماستريخت، فإنهم ولدوا أوروبيين، ويشعرون بانتمائهم إلى أوروبا، ويرون أنه لا يحق للجيل القديم أن يسلبهم حقهم المكتسب بالولادة. وقد اعتذر نائب رئيس الوزراء السابق، اللورد هزلتاين، من الجيل الجديد "لأن جيله حرمهم من التفاعل مع أوروبا والاستفادة منها". وقال هزلتيان البالغ من العمر 87 عاما "إن الجيل الجديد لن يغفر لنا أننا حرمناه من أن يستفيد من قوة أوروبا". بريطانيا غادرت الاتحاد الأوروبي رسميا في 31 يناير 2020، لكنها ستغادره فعليا في 31 ديسمبر، وسوف تُعامل كبلد أجنبي، وسوف تطبق بحق البريطانيين، القيود المفروضة على الأجانب إن لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق، والذي يبدو مستحيلا حاليا. قد يلجأ الطرفان إلى تمديد الوضع الراهن لفترة أخرى للسماح باستمرار المفاوضات. وأولى القضايا المعقدة هي مسألة الحدود بين آيرلندا الجنوبية وآيرلندا الشمالية. فآيرلندا الجنوبية دولة مستقلة، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي ومتمسكة بعضويتها، لأنها دولة فقيرة مقارنة بالدول الصناعية الأخرى، وقد استفادت كثيرا خلال العقود الثلاثة المنصرمة من عضويتها في الاتحاد الأوروبي، إذ أسعفها الاتحاد مرات عدة في أزماتها الاقتصادية. أما آيرلندا الشمالية فهي جزء من المملكة المتحدة، وعندما تغادر الأخيرة الاتحاد، فإن الحدود بين الشطرين ستخضع للقيود والتفتيش والتعرفات الجمركية. المشكلة هنا في اتفاقية الجمعة العظيمة الموقعة بين المملكة المتحدة وآيرلندا الجنوبية، التي أبرمت عام 1998 حينما كان البلدان عضوين في الاتحاد الأوروبي. وتقضي اتفاقية الجمعة العظيمة بأن تكون الحدود مفتوحة بين شطري آيرلندا، وهذه المسألة لم تكن مهمةً في تلك الفترة باعتبار أن كليهما عضوان في الاتحاد. أما بعد انسحاب بريطانيا، فإن قيود الحدود بين شطري آيرلندا سوف تعود، وهذا يخل باتفاقية الجمعة العظيمة التي حققت السلم والأمن والاستقرار في عموم بريطانيا. ويشعر سكان الشطر الشمالي، الذين يعرفون بالجمهوريين أو الوطنيين، ومعظمهم من الكاثوليك، بالانتماء لآيرلندا، ويرغبون بتوحيد الشطرين ضمن جمهورية آيرلندا، بينما يشعر السكان الملكيون أو الوحدويون، وغالبيتهم من البروتستانت الذين قدم أجدادهم من البر البريطاني الرئيسي، وبالتحديد من أسكتلندا، بالانتماء إلى بريطانيا. وبسبب هذا الانقسام بين السكان، أقدمت بريطانيا على فصل الشمال عن الجنوب، فاستقلت 26 مقاطعة من آيرلندا عام 1922 لتشكل (الولايات الآيرلندية الحرة) التي أعلنت نفسها جمهورية عام 1949، بينما بقيت ست مقاطعات من آيرلندا تابعة لبريطانيا، والتي شكلت ما يعرف الآن بآيرلندا الشمالية. ومن هنا بدأت المشكلة الآيرلندية، التي سببت إرباكا كبيرا للحياة في عموم بريطانيا حتى تمكن رئيس وزراء بريطانيا العمالي، توني بلير، من إبرام اتفاقية الجمعة العظيمة مع رئيس وزراء آيرلندا آنذاك، بيرتي آهيرن. ومن الحلول المقترحة لهذه المشكلة أن نقاط الحدود مع الاتحاد الأوروبي تكون عند الحدود البحرية للبر البريطاني، وهذا يجعل آيرلندا الشمالية فعليا ضمن الاتحاد الأوروبي، بينما تخضع البضائع البريطانية الداخلة إلى آيرلندا الشمالية، للتعرفات الجمركية الأوروبية، ما يعني انفصال الشطر الشمالي فعليا عن بريطانيا، وهذا الأمر يزعج السكان الملكيين، ويحرج حكومة المملكة المتحدة. القضية الخلافية الثانية والمعقدة هي قضية تحرر بريطانيا من القيود الأوروبية المفروضة على العمل والإنتاج، والذي يمكن أن يخل بضوابط التنافس المنصف بين المنتجين. التحرر من القوانين الأوروبية سيجعل الصادرات البريطانية أقل كلفة، ما يعني أن حصة بريطانيا من السوق الأوروبية ستكون غير متكافئة بسبب عدم التزامها بمعايير الإنتاج وقوانين العمل الأوروبية. الاتحاد الأوروبي يصر على إلزام بريطانيا بقوانينه المتعلقة بحقوق العمال والضوابط البيئية والدعم الحكومي المقدم لبعض السلع، إن أرادت أن تتنافس في أسواقه، كي تكون المنافسة بين منتجات الطرفين عادلة، لكن بريطانيا غير مستعدة لقبول هذه الشروط، فهي إنما خرجت من الاتحاد كي تكون حرة في سياساتها الاقتصادية. لكن عدم الالتزام بقوانين الاتحاد الأوروبي وضوابطه، سيعرض منتجاتها للتعرفة الجمركية الأوروبية، وهذه مسألة لن يتنازل عنها الأوروبيون مطلقا، لأنها قضية مبدئية واقتصادية. عدم الاتفاق يقلق الصناعيين البريطانيين لأن منتجاتهم سوف تكون مرتفعة الثمن في أسواق الاتحاد الأوروبي ما يجعلها غير تنافسية. وتصدّر بريطانيا حاليا 43% من منتجاتها إلى الاتحاد الأوروبي. الخلاف الثالث يتعلق بكيفية حل الخلافات التجارية المحتملة بين الطرفين، ودور محكمة العدل الأوروبية في هذه المسائل. الأوروبيون يرغبون أن يفرضوا عقوبات ورسوما في أي قطاع يرونه مؤثرا عند انتهاك المنتجات البريطانية للضوابط الأوروبية المتفق عليها، بينما تعارض بريطانيا مثل هذه الصلاحيات العابرة للقطاعات، وترفض الخضوع لأحكام المحكمة الأوروبية. الخلاف الرابع هو رغبة بريطانيا في التعاون الوثيق مع أوروبا في مجال الأمن، فهي تريد أن تتمتع بالوصول غير المقيد إلى المعلومات الأمنية الأوروبية المتوفرة للدول الأعضاء، لكن الاتحاد الأوروبي يحصر البيانات الأمنية بأعضائه، ويرى أن بريطانيا يجب أن تُعامل كدولة أجنبية، وليس صحيحا أن تقدم لها المعلومات الأمنية الأوروبية. الخلاف الخامس يتعلق بحق الصيد في المياه البريطانية. ورغم أن هذه المسألة ليست مهمة اقتصاديا، إذ لا تتجاوز قيمة هذا القطاع 650 مليون يورو سنويا، لكن بريطانيا تمتلك اليد العليا في هذه المسألة لأن معظم الصيد يجري في المياه البريطانية، ولهذا السبب فإن بريطانيا تحاول الضغط على الاتحاد عبر منع زوارقه من العمل في المياه البريطانية. وتطالب بريطانيا بحصة أكبر من قطاع الصيد، الأمر الذي يرفضه الاتحاد. والخلاف في هذا الأمر ليس فقط على مواقع الصيد، بل على حجم الصيد وأنواع السمك المسموح باصطيادها، والفترة التي تسري بها الاتفاقيات الحالية، إذ يسعى الاتحاد لإبقائها عشر سنوات، بينما تحاول بريطانيا تقصير أمدها. ويهدد الاتحاد بمنع بريطانيا من النفاذ إلى أسواق الاتحاد إن هي أصرت على منع زوارقه من الصيد في المياه البريطانية، وإذا ما نفذ هذا التهديد، فإنه يلحق ضررا كبيرا بقطاع الصيد البريطاني، خصوصا وأن ثلاثة أرباع الصادرات السمكية البريطانية تذهب إلى أسواق الاتحاد. والخلاف السادس هو أن الاتحاد الأوروبي لا يسمح لدول الاتحاد المختلفة أن تعقد اتفاقيات منفردة مع بريطانيا، وأن التعامل مع الدول الأخرى يجب أن يكون عبر بروكسل، بينما تحاول بريطانيا أن تعقد اتفاقيات مع دول الاتحاد باعبارها دولا مستقلة. وكان المحافظون قد وعدوا ناخبيهم بأن الاتفاقيات التي سيبرمونها مع الدول المستقلة ستغني بريطانيا عن الحاجة إلى الاتحاد الأوروبي. ويصر المحافظون، ومعظمهم مسنّون، على عزل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، فالاستقلال والسيادة أمران مهمان بالنسبة لهم، لكن الجيل الجديد، يريد البقاء في الاتحاد الأوروبي والتفاعل معه والعمل فيه وحمل جنسيته، وهذا واضح في النقاشات التي تجري في وسائل الإعلام البريطانية. كان بالإمكان إقناع بوريس جونسون بالبقاء في أوروبا، فالرجل نشأ في بروكسل إذ كان والده يعمل في المفوضية الأوروبية، لو كان رئيس الوزراء الأسبق، ديفيد كاميرون، قد تواصل معه ووعده بمنصب كبير، لكن كاميرون أهمل هذا الأمر، وفضل توحيد حزب المحافظين المنقسم بشدة، بإيكال الأمر إلى الشعب عبر استفتاء عام، وكان مطمئنا لنتائجه. لكن بوريس، ذا الطموح الجامح والقدرات اللغوية المتميزة، عمل بقوة وبتشجيع من اليمين الأمريكي المتطرف، ولا ننسى أنه مولود في أمريكا، على إقناع البريطانيين بمغادرة الاتحاد، فصوت 52% لصالح المغادرة و48% لصالح البقاء، وسبب رجحان كفة المحافظين هو أن الشباب المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، كعادتهم، لم يكترثوا للمشاركة في الاستفتاء، متوهمين بأن المسألة محسومة لصالح البقاء. لاشك أن البريطانيين سيواجهون مصاعب جمة بعد خروجهم من الاتحاد الأوروبي فعليا بعد أسبوعين تقريبا، خصوصا إذا خرجوا دون اتفاق، فصادراتهم إلى الاتحاد الأوروبي سوف تتعثر، وسوف يسود الشح في المنتجات الضرورية في الأسواق، وسوف تزداد البطالة، بسبب تقلص الصادرات البريطانية، وقد تحصل تعقيدات جديدة في المشكلة الأيرلندية، بل حتى تنقل البريطانيين داخل الاتحاد سيكون مقيدا، فلا يمكنهم البقاء لأكثر من 3 أشهر، ولا يمكنهم العمل دون تراخيص عمل، وسوف ترتفع حتى تكاليف الاتصالات عند السفر إلى أوروبا. أما الأوربيون العاملون في بريطانيا، والذين تسبب وجودهم في تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد، فإنهم سوف يحتفظون بوظائفهم، وسوف يحصلون على الجنسية البريطانية، إذ وعدت الحكومة البريطانية بأنها لن تخرِج أحدا منهم وذلك للحاجة الماسة إليهم، بينما يمكنهم أيضا العمل خارج بريطانيا بسبب تمتعهم بجنسياتهم الأوروبية. خلاصة القول إن مغادرة الاتحاد الأوروبي لم تحقق الأهداف المرجوة منها، بينما تسببت في خلق مصاعب اقتصادية جمة، وأحبطت طموحات الشباب الساعين إلى التفاعل مع أوروبا والاستفادة منها. سكاي نيوز