إن فكرة المرصد العربي للترجمة انشغال عميق عمره سنوات كثيرة. سبق أن طرحت الفكرة في منتديات عربية ودولية عديدة، في شهر مايو 2017 في الدورة الخامسة لمؤتمر أبو ظبي الدولي للترجمة في سنة 2017 وفي آخر مؤتمر دولي في 2018 في جلسات الترجمة، في مدينة آرل Arles، وقد كان الصدى فوق ما توقعت. موضوعة الترجمة مسألة حيوية بالنسبة للأمم، وليست كماليات كما قد يتصورها البعض. الترجمة تختزل الزمن المعرفي وتدفع بنا إلى ترهين معارفنا التي يكون قد مر عليها زمن طويل في ظل دينامية عالمية لا ترحم المتأخرين. والترجمة يمكن أن تشكل وسيلة لتقييم أنفسنا وموقعنا داخل الجهد العالمي الذي يُبذل، ونتواضع قليلاً أمام المعارف المتنوعة والمكثفة على الصعيد الإنساني. ليس عبثاً أن تتصدر الترجمة واجهة الاهتمام الثقافي العالمي، والعربي أيضاً، بالخصوص في السنوات الأخيرة. لا نستغرب أن يذهب جزء مهم من المقروئية العربية نحو الكتاب العالمي المترجم، الرواية على وجه الخصوص. نجد في دور النشر العربية جناحاً مخصصاً للكتب العالمية المترجمة، وهذا أمر مهم. هناك خيارات حقيقية ترتبط إما بالنصوص التي فرضت نفسها عالمياً «بيست سيلر»، أو تلك التي تتحدث عن ظاهرة خاصة مثل الجائحة التي تمس العالم قاطبة اليوم، ليس مستغرباً أن تترجم رواية مثل الطاعون لألبير كامو مثلاً. ظاهرة أخرى إيجابية في العالم العربي، رفع سقف الترجمة عالياً والخروج من فوضى الترجمة العبثية التي لا تحترم أي حق. الكتاب الواحد تجده مترجماً لدى العديد من الدور، واحدة من هذه الدور تكون قد اشترت حقوق الترجمة، الباقي كله مسروق. لم يعد ذلك ممكناً اليوم، وقد تحرم الدار التي نهبت الحقوق من المشاركة في معارض الكتب التي تشكل وسيلة مهمة للبيع، وتوقيع الكتب، وتصيد الكتّاب الجدد واستدراجهم نحو الدار. فرضت المعارض العربية والهيئات المختصة على دور النشر طرقاً عالمية في التعامل مع النص المقترح للترجمة. الخروج من دائرة الهواية والذهاب نحو الاحترافية التي لا حل غيرها من أجل ترجمة تتسم بكل المواصفات القيمية والقانونية. وراء المترجم قوة معرفية تراجع علمياً الترجمة وتحدد الجدوى والقيمة. متابعة الفعل الترجمي بمؤتمرات تحدد الحاجات الناشئة هو اعتراف ضمني بالصعوبات التي تلاقيها الترجمة. استثمار الوسائل الحديثة التي تجعل من الترجمة عملاً ليس فقط جاداً، ولكنه أيضاً دقيق ومختصر من الناحية الزمنية، ربح الوقت، دون أن يمس ذلك بالقيمة. وندرك سلفاً كم أن اللغة العربية في حاجة ماسة إلى هذه الجهود التي تذلل الزمن والمصاعب الطبيعية المتعلقة بالترجمة. للترجمة خصوصية في المجال الأدبي، فهي لا تطرح كما في الكتاب العلمي أو التاريخي أو المعرفي، ولكنها أكثر تعقيداً لأنها وإن استفادت من التقنيات الحديثة العامة للترجمة، فهي تتخطاها باتجاه عمق الإنسان وذاتيته بكل خصوصياتها الثقافية والحضارية. الإتقان اللغوي، في لغة المنطلق ولغة الوصول مهم، لكنه لا يكفي وحده. الأمر يتعلق بشيء أكبر، يمس الإنسان في تعقيدات الداخل العميقة، بحيث يتداخل فيها بشكل انزياحي، اللغوي والحسي بمختلف تجلياتهما. الوصول بالنص المترجم إلى درجة لبس النص الأصلي وجمالياته، ليس فعلاً سهلاً تكفي فيه المقابلات اللغوية والتعبيرية. أن تترجم دون كيخوتي، مدام بوفاري، آنا كارنين، زوربا، وعوليس، اسم الوردة، قواعد العشق، وغيرها من الروايات، فهذا يعني أن تندمج في الثقافات المحلية والخصوصيات الفردية للكاتب، لينشأ نص شبيه للأصلي، وكثيراً ما تخطاه في الجودة عندما تكون الترجمة متقنة. للأسف، الكثير من الترجمات التي اعتمدت على غوغل، أو غيره من المنصات التقنية الترجمية الأخرى، خصوصاً بالعربية، تبدو شديدة الضعف في قوة النص الداخلية، لدرجة أن تسقط في اللامعنى. بهذا المنطق السهل والتقني البحت، سيبدو دون كيخوتي نصاً أبله، بلا معنى، لرجل مجنون، وستبدو رواية عوليس رواية ثرثرة ذاتية غير محدودة في دوبلن، وستبدو التحول أو المسخ لكافكا نصاً بائساً، ومظلماً لرجل نام فاستيقظ، ليجد نفسه مجرد حشرة مكروهة. لدرجة أن يتساءل القارئ عن قيمة نص مفكك وعن عالميته؟ ويغيب عنه أن العيب ليس في النص، ولكن في الترجمة الضعيفة والمتسرعة، التي تغيب فيها العبقرية اللغوية والعمق الإنساني الذي جعلها خالدة. هذه واحدة من المخاطر التي يواجهها الأدب. من هنا تصبح فكرة المرصد العربي للترجمة أكثر من ضرورة. ولا أرى في الوقت الحالي سوى هذا الباب لضمان ترجمة أصيلة من اللغات العالمية إلى العربية، ومن العربية إلى اللغات العالمية. يشتغل المرصد على ثلاثة مستويات: أولاً، الترجمة عن اللغات العالمية نحو العربية، وهو ما يتم إنجازه اليوم بكثير من القلق، ولكن أيضاً بكثير من النجاح، استجابة لحاجات قارئ عربي يريد أن يتوجه نحو العالم الآخر لمعرفة تفكيره وحساسياته العميقة. وليس غريباً أن تنجح روايات إليف شفق مثلاً «قواعد العشق الأربعون»، في العالم العربي، وروايات أمريكا اللاتينية والعالم الإسباني، مثل ماركيز، فارغاس يوسا، وروايات كارلوس زافون. ثانياً، وظيفة مراقبة الترجمات الضعيفة للنصوص العالمية الكبرى، على الأقل تلك التي تشكل اليوم مرجعاً ثقافياً وإنسانياً. الكثير من القراء يستغربون أحياناً كيف اشتهر نص من النصوص وأصبح عالمياً وهو ضعيف. لا أتحدث عن «البيست سيلر» المحكوم بعلاقات تجارية وثقافية وسياسية، لكن النصوص الكبيرة التي تشكل اليوم الذاكرة الجمعية العميقة للإنسانية. العديد من دور النشر العربية اتخذت مسلكاً جديداً بإعادة ترجمة الكثير من النصوص وفق معطيات وحاجات العصر. الأمر الذي ترك أثراً طيباً لدى القراء الذين أعادوا اكتشاف هذه النصوص العالمية. ثالثاً، وهذا بيت القصيد، كيف تذهب نصوصنا نحو الآخر. كل شيء اليوم رهين الصدف والعلاقات الخاصة، أو الجوائز التي -على الرغم من أهميتها- ليست دائماً مقياساً حقيقياً للجودة. يمكن لهذا المرصد أن يرشح سنوياً النصوص العربية الكبيرة، خارج السياسي والإيديولوجي، ويدفع بها نحو القارئ عالمياً، لا ليضيف كومة مترجمات لا تقرأ، ولكن ليضيف إلى المعرفة الإنسانية التي نحن جزء منها، والإلحاح على ترجمة النصوص في كبريات الدور العالمية للنشر لضمان توزيع ومتابعة حقيقيين، في مجموعة لغات كالفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، والألمانية، والصينية، والهندية مثلاً، والمساهمة فعلياً في الترجمة، الأمر الذي يجعل الإبداعات العربية مرئية عالمياً، كما كان الأمر بالنسبة للأدب في أمريكا اللاتينية. هذا الذهاب نحو الآخر ليس عملاً ثانوياً، فهو في صلب العالمية. ويتم من خلال هذا الجهد المميز تغيير الذهنيات الجاهزة. العرب أمة، لغوياً على الأقل، تنتج معرفة وحباً وثقافة، لا تنتج فقط هزائم وحروباً مدمرة لنسيجها، وإرهاباً، وقتلة محترفين. ولماذا لا نضع في المدارات العالمية ونوبل نصوصاً عربية قوية تستطيع أن تنافس؟ لماذا لا يتم الدفع ببعض النصوص العربية العالية بجماليتها وإنسانيتها، نحو السنيما العالمية؟ يمكن للمرصد أن يكون وسيطاً. فكرة تستحق أن نتأملها قليلاً وبصوت جماعي. لهذا أصبح اليوم هذا المرصد أكثر من ضرورة عربية وعالمية، حاجة حضارية حقيقية. ربما سيكون للمرصد العربي للترجمة دوره الحاسم في ذلك. القدس العربي