كم مرة في مسيرة الحياة الطويلة سمعت الزملاء الأجانب من حولي في الندوات والمؤتمرات يتحدثون عن العرب كظاهرة عاطفية (لا يعرفون عبارة ظاهرة صوتية!) ويدعي بعضهم أن العواطف العربية كانت سببا مباشرا في تعاقب نكساتنا واستمرار تبعيتنا. فأعجب لتقييمهم للعرب لأني أدركت منذ الطفولة وبفضل التعليم الأصيل الذي تلقاه جيلي بأن العرب أمة العلم إلى جانب أمة ديوانها الشعر (الشعر ديوان العرب) وأن هذه الأمة جمعت بين التقدم العلمي والثراء الروحي. ويكفي أن نشير إلى أن 38000 مصطلح علمي وتكنولوجي متداول باللغات المختلفة هي من أصول عربية أولها مصطلح (الصفر) وأكبرها مصطلح (اللوغاريتم) وهو علم الجبر والكسور (كان الخوارزمي يسميه بعلم الجمع والتفريق) حين ابتكره محمد ابن موسى الخوارزمي في عهد الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي وكان قائما على بيت الحكمة في بغداد وهذا العلم هو الذي أسس للكمبيوتر والسمارت فون اللذين تستعملهما يوميا أيها القارئ الكريم وما عبارة (اللوغاريتم) سوى تحريف لاسم الخوارزمي! إلى آخر العلماء العرب والمسلمين المعروفين لكنهم يعملون اليوم في جامعات أمريكية وأوروبية ويابانية لأسباب لا تغيب عنكم! وتعلمنا أيضا أنه بالتوازي مع ريادتنا العلمية فنحن أمة أنزل إليها القرآن ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ● فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ● وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) تلك كانت رسالة الأمة لكن الاستخراب (المسمى خطأ بالاستعمار) نجح في التلاعب بجيناتنا فحورها لدى قلة من النخبة حتى تكون طيعة للتغريب وتشعر بأنها هزمت حضاريا وأن عليها أن تندمج في الحضارة الغالبة لغة وثقافة وحتى دينا! وها نحن أمام عواصف دولية عاتية تتصارع على أرضنا القوى العظمى بل وتتحالف لخدمة مصالحها وتحقيق أهدافها (أخيرا التحقت بالجيوش الأجنبية في المشرق الإسلامي حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديجول) وتعقدت لعبة الأمم الكبرى حولنا إلى درجة أتحدى فيها أيا كان من الزملاء العرب أن يشرح لي من هو العدو ومن هو الصديق؟ ومن هو الغازي ومن هو الفاتح؟ ومن يساعدنا ومن يساعد علينا؟ أتحدى النخبة العربية التي أسمعها في الفضائيات ومحطات الإذاعة ووسائل الاتصال الاجتماعي أن توضح لي بالخريطة الجغرافية كيف ولمصلحة من تتحرك الحدود وتتحور التحالفات وتتغير الثوابت وما هو دورنا ونحن في عين الإعصار نبصر وليست لنا بصيرة ونصبر على ما يصنعون بنا صبر العاجز لا صبر المؤمن! ثم أتساءل هل تكون عواطفنا المتأججة سبب ضياعنا وفقدان بوصلتنا؟ وأعود لذاكرتي فأحفر فيما رسخ فيها من أحداث هزيمتنا في حرب الأيام الستة (من 5 إلى 11 يونيو 1967) حين كنا في القيروان مجموعة شباب عروبي متأصل ننتظر النصر بسذاجة وعفوية كما انتظرته الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. فإذا بمذيع (البي بي سي) ينقل على المباشر ليلة 4 جوان ما يجري على الجبهتين المصرية والإسرائيلية حول مضيق العقبة ولن أنسى ما أفادنا به ذلك الصحفي حين قال: "على الجبهة الإسرائيلية لا شيء يوحي بالحرب أما على الجبهة المصرية فرأينا الجنود على دباباتهم ينشدون الأناشيد الحماسية ويطلقون الهتافات العاطفية ويصرخون ناصر ناصر ناصر... منتظرين زيارة معلنة للمشير عبد الحكيم عامر! ونعلم ما جرى فجر الغد الخامس من جوان حين انعرج التاريخ وانفجرت الجغرافيا في ظرف ساعات وكان الزعيم بورقيبة يقول لنا آنذاك: "إن الحرب انتهت في ست ساعات وليس في ستة أيام". وأذكر تعليق المثقف الفلسطيني الكبير ناصر الدين النشاشيبي (المولود في القدس سنة 1920 والمتوفى في القدس سنة 2013) رحمة الله عليه حين قال لنفس إذاعة البي بي سي: "إننا احتفظنا حتى سنة 1967 بنصف فلسطين وفي هذه الهزيمة فقدنا النصف المتبقي وفقدنا معه ثقتنا في القومية العربية». 0ولنتأمل اليوم سنة 2023 حال عواطفنا العربية التي انتقلت تدريجيا من الانتماء للإسلام إلى التعلق بالقومية ثم تقلصت إلى الانتساب للوطن بفضل الكفاح التحريري لكن الولاء أصبح للطائفة وللقبيلة وللعرق وغفلنا عن أننا كلنا أمة محمد وشعارنا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا تقولوا لي كما لقنتنا النخب المنسلخة عن أمتها بأن معضلاتنا العربية هي نتيجة مؤامرات غربية مسيحية صهيونية صليبية ماسونية مخابراتية! وهو المنطق السقيم الذي نتج عنه تفرقنا شيعا وتجرأت علينا الأمم الكبرى تتقاسم من جديد ( تركة الرجل المريض) نفس الرجل المريض المحتضر الذي تقاسمت فرنسا وبريطانيا تركته بمعاهدة سايكس بيكو سنة 1916 منذ أكثر من قرن في عملية تشبه إعادة بث حلقات المسلسل المأساوي على شاشات حياتنا ومصيرنا. لا بل إن مأساتنا أننا شعوب عاطفتها جياشة وعقلها معطل. فانظر حولك لترى العراق ثلاثة عراقات وسوريا ثلاث سوريات واليمن ثلاث يمنات وليبيا خمس ليبيات وفلسطين فلسطينان على الأقل في دوامة حروب أهلية إقليمية وربما غدا عالمية انطلاقا مما أصبح يسمى بؤر التوتر والأزمات وأغلبنا مع الأسف لا يزال يجادل في قضايا هامشية مؤقتة من نوع (من سيختار الكاميرات التي ستنصب في رحاب المسجد الأقصى ومن سيقوم بمتابعتها ؟؟؟) كأن قضية تحرير أرض ومقدسات فلسطين انحسرت وتقزمت لتصبح ملف كاميرات مراقبة! فهل من يقظة بعد سبات عميق؟ وهل بلغت إلى آذاننا أصداء قرع طبول القارعة وما أدراك ما القارعة ونحن نعيش أخطر حرب أوروبية في أوكرانيا وتحديا غربيا للصين العملاقة بحرمانها من تايوان وهذه المخاطر أكبر من أحجامنا وأبعد من أحلامنا. الشرق القطرية