بقلم: توفيق شومان / باحث لبناني (بلاد الشام: العثمانية مقابل " العروبة المحتارة ") في المقلب الشامي قد تكون حملة محمد علي باشا على بلاد الشام في العام 1811، واستطرادا على الجزيرة العربية، فاتحة لإيقاظ شعور قومي عربي تجاه الانتماء العثماني. بالرغم من أعجمية محمد علي، إلا أن رضوخ الأستانة على تعيينه واليا على بلاد الشام في الحملة الثانية في العام 1832 التي قادها نجله ابراهيم باشا، جعل مصر وبلاد الشام تحت إدارة سياسية عسكرية واحدة أفضت إلى تنامي المشاعر المتقاربة ، ليس فقط على المستوى القومي، بل على المستوى الديني، نظرا لقيم التسامح التي ضبطت علاقة إبراهيم باشا بالطوائف والمذاهب الشامية كافة. وينقل اللبناني جورج أنطونيوس، أحد أهم الذين أرّخوا لنشوء القومية العربية في كتابه " يقظة العرب " الصادر في العام 1939، عن إبراهيم باشا قوله: " لقد جئت مصر صبيا، فلوّنتني شمسها وصيّرتني عربيا ". صحيح أن الطموحات السلطوية المتعربة لإبراهيم باشا، أصابها الإخفاق بعد سنوات قليلة، وأدت إلى سقوط ولايته عن بلاد الشام، إلا أنها جعلت سؤال الهوية يحرك عجلة المشاعر القومية، خصوصا مع مستجد ثقافي رافق هذه المشاعر الجنينية، وتمثل بمقدمات النهضة الأدبية حين شكل اللبنانيان ناصيف اليازجي وبطرس البستاني جمعية " الآداب والعلوم " في العام 1847، وأعقبتها في بيروت " الجمعية العلمية السورية " في العام 1857، وضمت إلى جانب اليازجي والبستاني، حسين بيهم ومحمد أرسلان وعشرات غيرهم، وهي الإطار الأول الذي احتوى مسلمين ومسيحيين، ولعل ذلك يعود إلى أمرين، الأول يرتبط بالرواسب التسامحية التي خلّفتها مرحلة ابراهيم باشا، والثاني يرتبط بجوانب " الأفكار الحميدة" التي تُنبتها إرادة التغلب على الحروب وانقساماتها، حيث يتم البحث عن العناصر المشتركة في البيئات المتحاربة سعيا إلى تعايش لا يشوبه الإضطراب، ولذلك ليس من عبث القول أن يصار إلى الربط بين تأسيس " الجمعية العلمية السورية " بتعدديتها الدينية ومناخات الصدام الطائفي الذي شهده جبل لبنان في الفترة عينها، ومن صواب القول أيضا، إن الجذور الأولى للقومية العربية التي لاحت معالمها في تلك الفترة، بدأت بإحياء علوم اللغة العربية وآدابها ثم انتقلت إلى السياسة مترافقة مع شعور قومي سلبي مضطرد تجاه الهوية العثمانية، وهذا ما يمكن أن نجده على سبيل المثال في قصيدة لإبراهيم اليازجي يقول فيها: أقداركم في عيون الترك نازلة وحقكم بين أيدي الترك مغتصبُ فيا لقومي وما قومي إلا عرب ولن يضيع فيهم ذلك النسبُ سنطلبن بحد السيف مأربنا ولن يخيب لنا في جنبه الأربُ ونتركن علوج الترك تندب ما قدمته أياديها وتنتحب ُ وأما المفكر السوري، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، صاحب الكتاب الشهير " طبائع الإستبداد"، فيذهب في كتابه " أم القرى" إلى توصيف مشاعر الكراهية المتنامية بين العرب والأتراك، فيقول إن الأخيرين يصفون العرب بأقذع النعوت، ومنها: " ديلنجي عرب = العرب الشحاذون عرب عقلي = عقل عربي صغير عرب طبيعتي = ذوق عربي فاسد نرده عرب نرده طنبوره = أين العرب من الطنبور "، ويقابلهم العرب بالقول :"ثلاث خلقن للجور والفساد: الجراد والقمل والأتراك". هذه المشاعر القومية راحت تجد مفاعيلها العملية في تشكيل جمعيات سياسية غلبتها الحيرة في طريقة التعاطي مع السلطنة العثمانية، فهامت في وهاد العواطف المبعثرة والمتفرقة حول سبل الخروج من عباءة السلطنة أو سلوك المسالك الإصلاحية، فجمعية " بيروت السرية " التي أسهم في إطلاقها فارس نمر باشا، وأصدر من القاهرة " المقطم " و "المقتطف"، طالبت بتمام الاستقلال السوري واتحاده مع جبل لبنان، وجمعية " حقوق الملة العربية " التي ظهرت في العام 1881، رفعت شعار وحدة المسلمين والمسيحيين في بلاد الشام وإصلاح أحوالهم في إطار وحدة السلطنة العثمانية، و جمعية " الإخاء العربي العثماني "، المنطلقة في العام 1908، يحتوي اسمها على مدلولها السياسي، بل" هي رابطة قومية مخلصة للدولة العثمانية " على ما يقول محمد حرب فرزات في كتابه القيّم " الحياة الحزبية في سوريا "، الصادر في دمشق في العام 1955، وتطالب "بتحسين أوضاع المقاطعات العربية على أساس المساواة الحقيقية مع الأجناس الأخرى في الدولة " كما يقول جورج أنطونيوس، بينما " الجمعية القحطانية" المتشكلة في العام 1909، فقد دعت إلى تحويل السلطنة العثمانية إلى مملكة من تاجين، تاج عثماني وتاج عربي، على غرار الإمبراطورية النمساوية المجرية التي انهارت إثر الحرب العالمية الأولى، وفي العام نفسه، تشكل " المنتدى الأدبي " برئاسة وجه ثقافي مرموق من جنوبلبنان، هو عبد الكريم الخليل، الذي أعدمه القائد التركي جمال باشا، مع مجموعة من أبرز مثقفي بلاد الشام، من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، بين العامين 1915 و1916. وظهرت جمعية " اللامركزية الإدارية العثمانية" في العام 1911 في القاهرة، ومن أبرز قادتها محمد رشيد رضا، " منطلقة من كون المنضوين فيها مواطنين عثمانيين يطالبون بالنظام اللامركزي في إطار السلطنة الموحدة ، وإلى تلك الجمعيات ظهرت "العربية الفتاة" في باريس، وهي الأكثر تقدما في مسعاها نحو ما أسمته " الاستقلال العربي التام عن السيطرة التركية أو أي سيطرة أجنبية أخرى "، وطالبت " لجنة الإصلاح " بالحكم الذاتي لبلاد الشام والعراق في العام 1913، وصولا إلى " المؤتمر العربي الأول " المنعقد في باريس، حيث توصل المشاركون في أعماله إلى حلول وسطى، في طليعتها النظام اللامركزي ونشر اللغة العربية في المدارس. وإذ علت خطابات الإنفعال والحماسة في بداية الحرب العالمية الأولى في العام 1914، فإنها ارتدّت سلبا على النهضويين العرب الأوائل، فأعلنت تركيا الأحكام العرفية وأسقطت أحكام الإعدام على العديد من رموز الجمعيات المسبوقة الذكر، مما أشعل ثورة الحجاز بقيادة الشريف الحسين بن علي في العام 1916، حين أعلن قيام المملكة العربية، فتهاوت سريعا وتحولت إلى أنقاض ذكرى، لتخلفها " المملكة السورية الهاشمية " بين العامين 1918 و1920، بزعامة فيصل بن الحسين، وكانت تشمل افتراضا سورياولبنانوفلسطين، لكن الفرنسيين أهلكوها على حين غرة، وانتهت بمأساة معركة "ميسلون" في الرابع والعشرين من جويلية 1920، فانفردت فرنسابسورياولبنان وبريطانيا بالعراقوفلسطين والأردن. وما يمكن الإشارة إليه في سياق المقارنة بين النموذجين الشامي والمصري، حيال التعاطي مع السلطنة العثمانية، أن الاتجاه الإسلامي في مصر كان حضوره فاعلا في الخطاب السياسي لمجموعة من الرواد المطالبين بتطبيق الإصلاحات وتوكيد الهوية المصرية، فالخلافة الإسلامية بقيت أحد أصول هذا الخطاب، فيما الطرف الشامي تشكلت منطلقاته من الأبعاد القومية، متجاوزا الخطاب الديني إلى الحصرية السياسية، وأسباب ذلك مردها إلى تعدد الطوائف والمذاهب في بلاد الشام، وإلى حد ما العراق، وهذا ما يفسّر النهوض المبكر للأحزاب القومية العربية في الشام وضعف الحزبية الإسلامية في العقود التي تلت تشكيل الأقطار العربية، بينما عرفت مصر مفاعيل الحزبية الإسلامية منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين. (القوميات والوطنيات المتجادلة) شكّلت نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، نعيا عمليا لأفكار الجيل الأول من القوميين العرب وبأعمدته بلاد الشام وبحدود معقولة العراق، فإلى العوامل الخارجية العنيفة والمتمثلة ب " معاهدة سايكس بيكو"، و ب "وعد بلفور"، فإن العوامل الداخلية لم تكن أقل خطرا على المشروع القومي، فمصر بعد ثورة العام 1919، انطوت على كفاية وطنية استمرت حتى وصول الرئيس عبد الناصر إلى السلطة، وفي الفترة نفسها كان العراق في العام 1920 يسطر وطنيته الخاصة بثورته المعروفة ضد الإحتلال الإنكليزي آنذاك، ومكتفيا بهوية عراقية مستحدثة. وفي سوريا شكّل مشروع إسقاط " الدويلات الأربع" التي أعلنها الفرنسيون مقدّمة لتشكيل هوية وطنية سورية، فعلت فعلها لاحقا، وفي لبنان حين تم الإعلان في العام 1920 عن ولادة " لبنان الكبير "، إنما كان يعني انسحابه من هوية قومية كان مثقفوه ومفكروه في طليعة الذين أنتجوها، وأما الهاشميون الذين تصدروا الدعوة والفعل القوميين في وقت سابق، فقد لاذوا بالأردن والعراق، فيما فلسطين فقد كان واضحا أنها قيد التحول إلى جرح الضمير. ما يراد قوله هنا، إن الوطنيات أو القطريات العربية، باتت أمرا ثابتا بعد عقد العشرينيات، والذي انطبق على مصر، انطبق على بلاد الشام والعراق، حيث بدت ملامح تراجع الهوية القومية في تحولات السياسيين واعتناقهم الهويات الوطنية، طورا تحت مبررات الأمر الواقع، وأطوارا تحت ظلال الذرائعية السياسية، ويمكن اعتبار " المملكة السورية " بقيادة فيصل، تعبيرا حيّا عن تقلص الطموحات القومية، وهو أمر سيلقى مزيدا من التقلصات اللاحقة كان من ملامحها الأولى انقسام " جمعية العهد" القومية المنطلق قبل الحرب العالمية الأولى إلى " عهدين "، عراقي وسوري، في المرحلة التي تلت الحرب المذكورة، وهو المصير نفسه الذي استقر عليه حزب " الاتحاد السوري "، الذي تزعمه اللبناني ميشال لطف الله والسوري عبد الرحمن الشهبندر في العام 1918، فبعد حين انقسم بين التلبنن والتسورن، وهي الحال نفسها التي أصابت حزب " الاستقلال العربي " بإنشقاقاته وتقلبات الهوية التي رافقته، خصوصا بعد ظهور " الكتلة الوطنية " التي تشققت وانشقت بدورها إلى أن استغرقتها الهوية السورية، وهذا ما استقر عليه حزب " الشعب " الخارج عن " الكتلة الوطنية " في العام 1939، كنظيره المنشق " الحزب الوطني "، ومع هذه التقلبات المتدرجة كانت الوطنية السورية قد ترسخت وعرفت خصوصيتها. لم يختلف واقع الحال في لبنان، فرياض الصلح، القومي القديم، غدا أول رئيس للحكومة اللبنانية بعد الاستقلال في العام 1943، منجزا ميثاقا مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري، قوامه ألا يطالب المسلمون بوحدة مع سوريا، وألا يطلب المسيحيون الحماية من الغرب، فيما عبد الحميد كرامي، الرئيس الآخر لحكومة تالية، أوصى أبناءه بالمحافظة على استقلال لبنان، على ما جاء في صحيفة " الرقيب " المقربة من آل كرامي، وأما كاظم الصلح القومي المعروف، فعزف عن التوقيع على المقررات الوحدوية ل" مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة " في العام 1936، متحررا من الإفتراض القومي، ومتعايشا مع الواقع الوطني، وهذا ما رسا عليه حزبا " النجادة " و" النداء القومي ". مع ذهاب الجيل الثاني من القوميين نحو الوطنيات الناشئة، كان جيل ثالث يشق طريقه، من مثل ميشال عفلق، وزكي الأرسوزي، وأكرم الحوراني، وقسطنطين زريق، وساطع الحصري، وانطون سعادة، وفيما كان من المنتظر أن يأخذ جدل الهوية نمط التنازع أوالنقاش بين القطرية والقومية، فإنه سلك محورا إضافي الطابع، ومتمثلا بالجدل التنازعي القومي القومي بكل تفرعاته، بما فيه النمط الناصري بعد سطوعه، فحزب " البعث " على سبيل المثال، افترض العرب أمة واحدة من الخليج إلى الأطلسي، وهذا ما كرّرته حركة " القوميين العرب " واستطرادا الحلم الناصري، فيما الحزب " السوري القومي الاجتماعي " حصر أمته ب " الهلال الخصيب " مضيفا إليها جزيرة قبرص، ولم تلق على ما يبدو "الأمة العربية " ولا "الأمة السورية " استحسانا في المنظومة الفكرية لأحد أبرز المفكرين العرب القوميين، السوري قسطنطين زريق، فكان دائم الحديث عن " البلاد العربية "، وأما الأمة فهي قيد التحقق" منذ صدور كتابه الأول " الوعي القومي " في العام 1939، فيما اللبناني رئيف خوري، وفي ردّه على زريق في كتاب " معالم الوعي القومي " في العام 1941، يسأل من العربي؟، ويجيب قائلا:" هو الذي ينزل قطرا من الأقطار التي يتألف منها الشرق العربي والاتحاد العربي"، وهذا الجدل حول الأمة ومكانة القطرية والوطنية فيها دفع المفكرين القوميين إلى توجيه العتب النظري لمصر، فساطع الحصري يقول في كتابه " آراء وأحاديث حول القومية العربية ": " مصر كانت بعيدة عن الشعور بالقومية العربية الكامنة فيها، ولهذا ظلت مُعرِضة عن فكرة العروبة وغير مكترثة بأعمال دعاة القومية وأعمالهم إن لم تكن معارضة لها "، ويلاقيه هاني الهندي، العراقي الأصل والسوري الجنسية، وأحد القادة المؤسسين ل"حركة القوميين العرب" و ل" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " في كتابه " الحركة القومية العربية في القرن العشرين"، فيقول ":إن الدعوة القومية العربية افتقدت لدور مصر والمصريين لأكثر من قرن من الزمان، فلم يُتح للعرب أن تقوم مصر بدور بسمارك في توحيد آلمانيا، أو دوقية موسكو في توحيد الأمة الروسية ".