أظهرت التنبؤات الاقتصادية تباطؤا ملحوظا في النمو الاقتصادي العالمي للعام المقبل والعام الذي يليه، وأسباب التباطؤ تعود بشكل مباشر إلى الحرب الروسية الأوكرانية والصراعات السياسية بين الدول الغربية والصين. وتشير التنبؤات التي نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأن الاقتصاد العالمي سينمو بمعدل 2.6% في عام 2023، متدنيا عن عام 2022 ب06%. غير أن معدل التباطؤ لعام 2023 يقترب من النصف، إذا ما قورن بالفرق بين معدل النمو الحقيقي لعام 2022، وهو 3.2%، والنمو المتنبَّأ به أواخر عام 2021، وهو 4.3%. لكنه مازال موجبا لمعظم دول العالم، باستثناء روسيا. وحسب هذه التنبؤات فإن النمو الاقتصادي سيكون موجبا في معظم الاقتصادات العالمية الرئيسية، باستثناء روسيا، التي سينكمش اقتصادها بمعدل 2.5%، والمملكة المتحدة بمعدل 0.2%. وتتصدر الصين دول العالم أجمع بمعدل النمو، إذ إن الاقتصاد الصيني سينمو بمعدل 5.3%، حسب التنبؤات. وتلي الصين مباشرة، الهند بمعدل نمو قدره 5%، ثم إندونيسيا بمعدل 4.7%، وتركيا ب 2.8% والمملكة العربية السعودية بمعدل 2.6%. أما مجموعة العشرين فسيكون معدل النمو فيها 2.6% أيضا. وفي الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، لن يتجاوز معدل النمو الاقتصادي 1.5%، وأنه سوف يتدنى إلى 0.9% في عام 2024. وسوف يتدنى معدل النمو في الدول الصناعية السبع في عام 2023 إلى 1.1%، وفي منطقة اليورو، التي تضم 17 بلدا، سيبلغ النمو المتوقع 0.8%. وتشير التنبؤات إلى أن النمو الاقتصادي لمعظم بلدان العالم، بما فيها الصين، سيتدنى أكثر في عام 2024، باستثناء الهند التي سيرتفع فيها النمو الاقتصادي إلى 7.7%، وإندونيسيا إلى 5.1% وتركيا إلى 3.8% والمملكة العربية السعودية إلى 3.7%. معدل النمو العالمي لعام 2024 سيرتفع قليلا إلى 2.9%، من معدل 2.6% لعام 2023. الاقتصادان الروسي والبريطاني سيتعافيان قليلا في عام 2024، إذ سيتقلص معدل الانكماش في الاقتصاد الروسي إلى 0.5%، بينما يغادر البريطاني الانكماش إلى النمو الموجب، ولكن بمعدل 0.9% فقط مقارنة عما كان عليه عام 2023، وهذا لن يؤثر على الأرجح على نتائج الانتخابات المقبلة التي ستجرى أواخر 2024، أو مطلع 2025. ومن العوامل التي ساهمت في تحسن احتمالات الاقتصاد العالمي، أو عدم تدنيه إلى أسوأ مما كان يمكن أن يكون عليه، هو انخفاض أسعار الطاقة والمواد الغذائية قليلا، رغم أن مستوى الأسعار مازال مرتفعا عما كان عليه قبل الحرب الروسية الأوكرانية. تخفيف القيود على النشاط الاقتصادي في الصين هو الآخر سيساهم حسب التوقعات في تنشيط الاقتصاد العالمي وإدامة إمدادات السلع والبضائع والخدمات التي ستساهم بدورها في تنشيط السياحة. وتعتمد العديد من الدول الصناعية في آسيا وأوروبا وأميركا على الواردات الصينية في تنمية اقتصاداتها، خصوصا السلع الوسطية المنخفضة الثمن. وإذا ما نظرنا إلى الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة مثلا، لرأينا أنه يميل بشكل حاد إلى صالح الصين. فقد بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى الولايات المحتدة 537 مليار دولار في عام 2022، مقارنة مع 153 مليار قيمة الصادرات الأميركية للصين حسب وكالة التحليلات الاقتصادية BEA. وبذلك تكون الصين ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، بعد كنداوالمكسيك. واستنادا إلى أرقام هيئة الجمارك الصينية، فإن الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الثالث للصين، من حيث الحجم، بعد مجموعة آسيان والاتحاد الأوروبي. الدول الأوروبية هي الأخرى تعتمد اعتمادا كبيرا على وارداتها من الصين، أكثر بكثير من الولايات المتحدة، والميزان التجاري هو الآخر لصالح الصين، إذ بلغ العجز التجاري للاتحاد الأوروبي مع الصين 432 مليار دولار عام 2022، حسب وكالة رويترز. وتبلغ نسبة الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبي 20% من إجمالي وارداته، لكن صادرات الاتحاد إلى الصين لا تشكل سوى 9% من واردات الصين. لذلك لن يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتخلى عنها بسهولة، رغم أنه متفق مع الولايات المتحدة على ضرورة مواجهة المواقف الصينية، التي يراها الغربيون عموما بأنها متشنجة وعدائية. ولهذا السبب تخشى الصين كثيرا من أي تقلص في التبادل التجاري بينها وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لأن ذلك يؤثر تأثيرا مباشرا على نموها الاقتصادي. لكن واشنطن وحلفاءها مصممون على حرمان الصين من الميزة التجارية التي تمتعت بها لخمسة وأربعين عاما، على الرغم من قولهم في بيان قمة السبع الأخيرة إنهم لا يريدون إعاقة تقدم الصين. غير أن اللهجة الصينية بدأت تزداد حدة وتشددا منذ عدة سنين، سواء تجاه تايوان، أو الدول الأخرى التي تختلف معها سياسيا، مثل أستراليا ولتوانيا والاتحاد الاوروبي، الأمر الذي أشعر دول جنوب شرق آسيا وأستراليا واليابان والدول الأوروبية والولايات المتحدة بأن الصين سوف تشكل خطرا عليها مستقبلا، خصوصا مع تحالفها مع روسياوكوريا الشماليةوإيران، وتزايد نزعتها العسكرية، ومحاولتها التحكم ببحر الصينالجنوبي. الموقف الصيني المساند ضمنيا لروسيا، والمحايد رسميا، في الحرب على أوكرانيا، زاد الأمور تعقيدا وجعل الصين تقف في الجانب المناقض للدول الغربية، التي ساهمت في تقدمها خلال العقود الأربعة المنصرمة عندما كانت حليفة ضمنية لها مقابل شريكها الأيديولوجي، وغريمها في الوقت نفسه، الاتحاد السوفيتي. مبادرة الصين (الحزام والطريق) واستثمار الصين مئات المليارات فيها من أجل كسب نفوذ دول العالم الثالث، هي الأخرى أثارت الدول الغربية، لأنها شعرت بأنها موجهة ضدها، خصوصا وأنها تعتمد على إقراض الدول المحتاجة، وتكبيلها بديون غير قادرة على تسديديها، مقابل الهيمنة على مواردها الاقتصادية، وما المأزق الذي وجدت سريلانكا نفسها فيه سوى مثال صارخ. النمو الاقتصادي العالمي يعتمد اعتمادا كبيرا على النشاط الاقتصادي في الدول ذات الاقتصادات الكبيرة، حسب مقياس الناتج المحلي الإجمالي. وهذه الدول، هي الولايات المتحدة (21 ترليون دولار) والاتحاد الأوروبي (16.6 ترليون) والصين (15 ترليون) واليابان (5 ترليون) وبريطانيا (2.67 ترليون) والهند (2.66) وكندا (1.64) وكوريا الجنوبية (1.63) وروسيا (1.48) والبرازيل (1.44) وأستراليا (1.32) المكسيك (1.27) والمملكة العربية السعودية (1.1) وإندونيسيا (1.05) حسب وكالة Global PEO. وإن لم تكن هذه الدول متفقة فيما بينها على أسس التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، أو منسجمة، أو متفاهمة على القضايا المختلف عليها، وغير متصارعة كما يفعل بعضها الآن، فإن مستقبل الاقتصاد العالمي لن يبشر بخير، أو أنه لن يبلغ مدياته المحتملة التي تخدم شعوبها. اقتصادات معظم الدول الصناعية، باستثناء ألمانيا وبريطانيا، تجاوز فيها مستوى النمو ما كان عليه أثناء جائحة كرونا. الاقتصاد الصيني نما بمعدل 8.1% في عام 2021، بعدما بدأ العالم بتخفيف القيود المفروضة على الاقتصاد بسبب الجائحة، الأمر الذي رفع الإقبال على السلع والبضائع الصينية. وعلى خلاف الاقتصادات العالمية، التي انكمشت بسبب الجائحة، فإن الاقتصاد الصيني نما بنسبة 2.4% عام 2020 حسب تقديرات مؤسسة USGLC الأميركية. أما الاقتصاد الأميركي فقد نما بمعدل 5.3%، عما كان عليه قبل الجائحة، والكندي بمعدل 3.5%، ومنطقة اليورو بمعدل 2.5%، واليابان بمعدل 1.3%. لكن الناتج المحلي الإجمالي الألماني مازال دون المستوى الذي كأنه قبل الجائحة، ولكن بمعدل طفيف هو 0.1%، بينما الناتج المحلي البريطاني مازال منخفضا بمعدل 0.5% عما كان عليه قبل الجائحة. المشكلة في بريطانيا أن جائحة كورونا قد تزامنت مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي فاقم الأوضاع الاقتصادية بشكل مضاعف. إن ما تخشاه الدول الغربية من التوسع الصيني هو أن التوسع سيكون على حسابها، ليس لأن أداء الصين الاقتصادي أفضل، أو أكفأ، من نظرائه في أوربا وأميركا وأستراليا واليابان، وإنما لأن النظام السياسي الصيني لا يتقيد بالضوابط الغربية للإنتاج، كحقوق العمال والعطل والإجازات، ومعايير البيئة والجودة، ما يجل المنتجات الصينية أقل كلفة من نظيراتها الأوروبية، أي أنها تكتسب ميزة غير مستحقة. كما أن النظام السياسي الصيني تديره سلطة مركزية قوية، وسريعة في اتخاذ القرارات، بينما الأنظمة السياسية الغربية مقيدة بانتخابات وبرلمانات وقوانين ولوائح، لا يمكنها أن تتجاوزها أو القفز عليها. التفاوت في النظام السياسي بين الصين والبلدان الغربية هو المشكلة الأساسية. فالدول الديمقراطية لا تخشى المنافسة المتكافئة لأن لديها الثقة بأنها متقدمة من كل النواحي على الدول الأخرى، لكنها تخشى المنافسة غير المتكافئة. لم تنزعج الدول الغربية من تقدم اليابان أو كوريا الجنوبية أو تايوان أو تايلاند، بل إن هذه الدول صارت حليفة لها، لكن مشكلتها مع النظام الصيني، الذي صار نقيضا لها، بل يسعى لتقديم نموذج اقتصادي مختلف، قد تتبناه بعض دول العالم الثالث اضطرارا، خصوصا في آسيا وأفريقيا. كانت الدول الغربية تأمل أن تتحول الصين تدريجيا إلى النظام الرأسمالي الغربي، وتسير، وإن ببطء، في هذا الاتجاه حتى جاء الرئيس الحالي الذي نحى منحى سلطويا، في نظر الغرب على الأقل. وما فاقم المشكلة هو أنه تحالف مع نظام روسيا ونظام كوريا الشمالية، ونظام إيران الثيوقراطي المنغلق، وكل هذه التحالفات مناهضة بقوة للدول الغربية وأنظمتها السياسية والاقتصادية ونمط حياتها الحر. لذلك فإنها لن تسمح لهذا النهج أن يسود، لأنه، إن ساد، فإن تفوقها ونجاحاتها والمنجزات التي حققتها في شتى المجالات سوف تتراجع، وهي مصممة على مقارعته والحد منه بل ووأده في المهد قبل أن يتفاقم. هل تتمكن؟ ربما، خصوصا إذا ما انسجمت في سياساتها ونسَّقت جهودها ووحَّدت أهدافها. هل هذا ممكن؟ نعم، إن شعرت جميعها، وبنفس القَدَر، بخطر داهم يتهددها، وهي تشعر الآن فعلا بخطر روسي عسكري، وسعي صيني حثيث للتوسع الاقتصادي والسياسي على حسابها. الاقتصاد العالمي كان سينمو بشكل أفضل لولا هذه الصراعات المتفاقمة. الغربيون لن يتراجعوا، لأن المسألة وجودية بالنسبة لهم. الروس تورطوا في حرب لا يعرفون كيف يخرجون منها منتصرين، أو غير مهزومين، والصينيون، في ظل شي جينبينغ، اختطوا نهجا مختلفا عن النهج الذي سارت عليه الصين منذ عام 1978. سكاي نيوز عربية