يتفّق العلماء والباحثون في مجال علم الاجتماع، أننا قد دخلنا في ثورةٍ جديدة، هي ثورة الذكاء الاصطناعي، قد تفوق بتأثيراتها الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، وثورة الاتصالات…وأننا نعيش في نهاية المرحلة الأخيرة للتطور التكنولوجي الذي قاده البشر كليًا، ولكن الذكاء الاصطناعي سيعرّف العصر التكنولوجي القادم ويحدّده، وبالتالي سيحدّد مسار مستقبلنا. يستهل فيصل مصلح كتابه "السياسة في ظل الذكاء الاصطناعي"، الصادر حديثاً عن "دار أبعاد" 2023 بهذه الجمل (ص10 و11)، بأن "الذكاء الاصطناعي سيرسم مسار البشرية القادم ومستقبلها، وهو اليوم المادة الأكثر أهمية، والمفتوحة على سيل متدفّق من الأسئلة التي لن تنتهي قريباً، ولكن الإجابات عليها إلى اليوم هي غير شافية، ولا مطمئنة، ولا تجعل الإنسان يعيش يومياته بمعزل عن التفكير الدائم والمضطرب، بما يمكن أن يحصل له وللأجيال التي سترث الأرض من بعده. ولكن، طالما كان الخلاف كبيراً بين العلم والمعتقدات البشرية على مرّ التاريخ، وقد اضطهدت المعتقداتُ البشرية العلمَ على مر العصور، فكل اختراع مفصلي كان يواجه بالريبة والقلق، لشعور الإنسان أنه سيغيّر تقاليده وعاداته وقيمه، وكان يواجه بالرفض، وأحياناً كان المخترع يواجه الموت والقتل، ومن ثم تبدأ الناس بالتأقلم مع هذا الجديد رويداً رويداً، ومن ثم يتم التعامل مع التطور الناشئ على 3 مراحل، تكون الأولى عبر رفضه، وفي الثانية يبدأ الناس في التعامل معه، والاستفادة منه، وفي الثالثة يتكيّفون معه بالكامل. بناءً على رأي العالمة في الطبائع البشرية والاجتماعية فلين كولين (ص10)، فإن "المخيف اليوم أنّ السرعة التي يتخذها الذكاء الاصطناعي، والتغيرات المنتظرة، ستكون مغايرة ومختلفة، وربما متوحشة". لا أخفي على القارئ، وقبل أن تصلني نسخة الكتاب من الصديق الدكتور فيصل مصلح، وأنا أقرأ وأتابع وأشاهد يومياً تقارير وبرامج وأبحاثًا ومقابلات عن الذكاء الاصطناعي، ولا أذيع سراً، إذا قلتُ انني بقيت مضطرباً لعدد من الليالي، لا أستطيع إلى النوم المطمئن سبيلاً. وما زال هذا الموضوع يشغلني في كل ساعات اليوم. وما زاد قلقي أكثر هو ما اطلعتُ عليه في الكتاب الذي بين أيدينا، والذي كان لي أملٌ في أن يخفّف بعض قلقي، لأنّ الدكتور فيصل متابع أكثر مني لهذا الموضوع، ووصل إلى درجة تأليفه كتاباً مهماً عنه. ولكنني كنت ازداد خوفاً وقلقاً، وأنا أقلّب كل صفحة من صفحات الكتاب، وأنتقل من فصل إلى آخر. ولكن قبل الغوص في تفاصيل الكتاب القيّم والمهم، لا بدّ من طرح بعض الأسئلة الجوهرية التي تدخل في صميم حياتنا، ومستقبل أبنائنا، بل مستقبل البشرية جمعاء. ..أسئلة مؤرقة سيسأل كل من يطّلع على موضوع الذكاء الاصطناعي، هل يعيش الكوكب سنواته الأخيرة، وما هو مستقبل البشرية بعد عدد من السنين؟ وهل ستحل الآلة محل الإنسان، وبالتالي ستتمكّن من السيطرة علينا، وستتحكّم بمصيرنا وبآرائنا وحركتنا اليومية، وبملفاتنا الصحية والاجتماعية والأمنية والعائلية، وستزيل كل خصوصية لنا؟ ما هو مستقبل الإنسان؟ وهل سيجد له وظيفة بعد بوجود الذكاء الاصطناعي، والتطوّر المذهل في القفزات الكبيرة والمخيفة التي تحدّد مساره وترسمه؟ من يضمن للإنسان ألا تستعبدنا هذه الشركات المطوّرة لبرامج الذكاء الاصطناعي، وتكون هي الإقطاع الجديد، ومن يستطيع طمأنة الناس على الكوكب؟ ولمن يريد طمأنة الإنسان، أنّ المنظمات الدولية ستنظّم هذا الموضوع، فهل استطاعت في وقت ما من ضبط انتشار الأسلحة النووية والكيميائية، وماذا عن الأسلحة الجرثومية واستخدامها في معركة المنافسة بين الدول والمصالح والشركات؟ يقول هنري كسينجر: "أتوقّع أن يكون الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الرقمية، هو نهاية التاريخ". ولكن العالمة الاجتماعية فلين كولين تقول إنّنا: "يجب ألا نخاف من التكنولوجيا، بل علينا أن نخاف من الإنسان، لأننا إذا كنّا نشكّل خطراً على بعضنا البعض، فستكون آلاتنا خطيرة علينا أيضاً." ولكن في الوقت نفسه يعتقد بعض المستقبليين والعلماء، ومن بينهم "نيك بوستروم"، والراحل "ستيف هوكينغ"، أنّ الذكاء الاصطناعي ربما يزرع بذور إبادتنا البشرية، من خلال الهجمات القاتلة التي قد تشنّها علينا الآلات في حال تمتعت بحرية القرار في القتل، وحرية تحديد الأهداف، ولا سيما إذا ما كانت من نوع الذكاء الاصطناعي الواعي المتطور بذاته (ص99). ..هل تشغل الآلة وظيفة الإنسان، وبكفاءة أكثر؟ أول ما يتبادر إلى ذهن المتابع والقارئ هو ماذا سيحصل للبشر على صعيد الوظائف والمعيشة؟ يجيب الكاتب عن هذه الأسئلة بعدد من الصفحات، ويطرح عدداً من الأسئلة أيضاً. فأنا كأستاذ جامعي كيف سيأخذ الروبوت مكاني؟ هل يفهم مشاعر طلابي وأمزجتهم وظروفهم النفسية والاجتماعية؟ ماذا فعلت الشركات أو الدول في موضوع القرصنة، وهل استطاعت حماية بياناتها؟ وماذا لو استطاع المقرصنون قرصنة المعلومات؟ ..ضوء بسيط في نهاية النفق في الصفحة 279 يظهر أمل بسيط في أن يشكّل الذكاء الاصطناعي فرصة للبشرية لاستغلاله، وتطوير حياة البشر من خلاله، ولا سيما في موضوع التقدم في الطب، والتخلص من كثير من الأمراض التي تفتك بالبشر، من حالة الإعاقة التي يسببها جهازنا العصبي، وسيساعد المشلولين على السير على أقدامهم، ويساعد العميان على أن يروا العالم من جديد، وسيجعل ذاكرتنا ذاكرة أبدية لا ننسى معها أي تفصيل، وسيمكننا من معالجة آلاف البيانات بسرعة الضوء. وسيتمكن الذكاء الاصطناعي من معرفة وقت حدوث الزلزال، فتتجنب البشرية كوارث إنسانية، ومن معرفة حدوث التسونامي قبل حدوثه. وسيتمكن الذكاء الاصطناعي من بناء أفضل المنازل لنا، ويقود السيارات نيابة عنا، وتنعدم حوادث السير، وتنقرض المخالفات المرورية، وسيتمكّن من كتابة أجمل القصائد، ورسم أجمل اللوحات، وكتابة أجمل النصوص والروايات. ولنتخيّل الوقت الذي سنمتلكه في حال قام الذكاء الاصطناعي بالوظائف الروتينية التي نمارسها، إذ سيصبح لدينا الوقت للتأمل والاستمتاع بالحياة، والجلوس سوياً وقتاً أكثر مع من نحب. ويكون لنا الوقت المتاح لممارسة الرياضة والموسيقى والفن والشعر والرسم. ولكن كل ما ذُكر مشروط بأن نحسن استخدام الذكاء الاصطناعي، ونتمكن من رقابة صارمة على المبتكرين تمنعهم من تطوير أي آلة قادرة على تهديد البشرية. وإلا سنكون قد فتحنا أبواب السجن بأيدينا للبشرية جمعاء، فندخل في عصر مظلم جديد، سيجعلنا عبيدًا للآلات. ..بنية الكتاب وتفاصيله يتألف الكتاب من قسمين، يتحدث الكاتب في القسم الأول عن علم الاجتماع في ظل الذكاء الاصطناعي، ويعالج فيه عدداً من الموضوعات، منها إخضاع الذكاء الاصطناعي إلى المُثُل العليا، وكيفية تأقلم الإنسان مع التكنولوجيا الحديثة، ومن ثم ينتقل إلى الحديث عن الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، فيورد قولاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول فيه: "أياً يكن رائد الذكاء الاصطناعي، فإنّه سيحكم العالم". لذلك قد نشهد في المستقبل جيشاً من الروبوتات يقاتل جيشاً بشرياً، أو جيوشاً من الروبوتات تتقاتل فيما بينها (ص96). ثم ينتقل الكاتب للحديث عن الطب وأهميته في ظل الذكاء الاصطناعي، وهنا يبرز بعض الضوء في النفق المظلم، حيث سنكون أمام مرحلة مختلفة على مستوى شفاء البشر من أمراض مستعصية، ولكن قد يتحول أطباء المستقبل على روبوتات، وقد يتخلى العالم عن الطبيب البشري. ومن ثم ينتقل الكاتب للحديث عن الاقتصاد في الذكاء الاصطناعي، قبل الانتهاء من القسم الأول، بالحديث عن علم الاجتماع في ظل شبكات التواصل الاجتماعي. في القسم الثاني يتحدث الكاتب عن العلوم السياسية في ظل الذكاء الاصطناعي، وهو العنوان الذي اختاره الكاتب للكتاب، ليعرّج على أنّ المعلومات التي تحوز عليها الشركات هي الذهب الجديد الذي سيحلّ مكان النفط والغاز والذهب الأصفر. ويتطرّق إلى الحرية والديمقراطية في ظل الذكاء الاصطناعي، ليختم الكلام عن ديمقراطية الذكاء الاصطناعي والانتخابات القادمة وتأثير شركات الذكاء في تحديد الفائزين فيها، عبر توجيه الناخبين نحو مرشح معيّن ومحاصرة آخر، ومنعه من نشر بياناته، أو تعرّف الناخبين إلى برنامجه. في الختام نجح فيصل مصلح في معالجة موضوع مهم ومحدث وجديد بطريقة سهلة وممتعة بعيداً من التعقيد، ولا سيّما أنّ الكتاب علمي بطابعه. واحتوى الكتاب على عدد كبير من المراجع المهمة التي تشكّل باباً واسعاً لمن يرغب في التوسع في متابعة موضوع الذكاء الاصطناعي. رجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام من "جامعة السوربون" سنة 1968، وعمل أستاذاً في "الجامعة الأردنية" و"جامعة الكويت". وله مؤّلفات عدّة منها "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام"، و"الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية"، و"أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، و"في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين"، و"خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية"، و"تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات"، و"طائر التم-حكايات جنى الخطا والأيام".