هناك الكثير من الأحداث التي لا تهتم بها وسائل الإعلام، وتحاول التعتيم عليها ؛ بالرغم من أنها يمكن أن تسهم في زيادة قدرتنا علي استشراف المستقبل.. من أهمها تراكم الديون على الدول النامية، مما دفعها للتوقف عن النمو، لذلك يجب أن تخطط الدول الغنية لمواجهة أزمة اقتصادية عالمية جديدة. طرح مارك سوزمان سؤالا يثير الخيال السياسي والاقتصادي هو: هل تدفع الديون الدول النامية للانهيار؟ ويبدأ إجابته بإلقاء الضوء على المظاهرات التي شهدتها كينيا خلال الشهر الماضي. التفسير السطحي الذي قدمته وسائل الاعلام لتلك المظاهرات؛ أنها كانت ردا على القانون الذي أصدره البرلمان الكيني الذي يتضمن زيادة الضرائب.. لكن دراسة الأحداث برؤية أكثر عمقا توضح أن كينيا ككل دول افريقيا تواجه أزمة اقتصادية بسبب الديون، وأنها لم تستطع مواجهة هذه الأزمة إلا بمواجهة خيارات مستحيلة من أهمها زيادة الضرائب وتقليل الانفاق على الصحة والتعليم. لقد واجهت القيادة الكينية أزمتها؛ التي تزايدت حدتها خلال الأعوام الماضية ؛ بسبب حاجتها لتسديد أقساط الديون وفوائدها التي أصبحت تستنزف الثروات القومية، والدخل القومي، ولذلك لجأت لإصدار سندات بفائدة 10% للحصول على ديون جديدة، لكن كلما تراكمت الديون تزايدت الأزمة، واضطرت الحكومة للتضييق على الشعب، وتأخير دفع رواتب الموظفين. لكن تحت ضغط المظاهرات اضطر الرئيس الكيني إلى الغاء القانون الذي أصدره البرلمان.. لكن هل يشكل ذلك حلا ؟!! من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية في كينيا تتزايد حدتها، حيث تضطر الحكومة إلى انفاق ما يزيد على 75% من دخلها علي خدمة الدين. ومع ذلك تبدو حالة كينيا أفضل من الكثير من الدول الإفريقية التي تبخرت كل مدخراتها بسبب تسديد فوائد الديون، وتوقفت فيها كل برامج وخطط التنمية. يرى مارك سوزمان في مقاله الذي نشرته مجلة الشؤون الخارجية ( فورين أفيرز ) أن الديون هي السبب الرئيس في كل مشاكل الدول النامية، وقد ساهمت جائحة كورونا في زيادة عجز هذه الدول علي الوفاء بأقساط الديون وفوائدها؛ بالاعتماد على مواردها المحلية، أو حتى بالحصول علي ديون جديدة. يشير سوزمان إلي عامل آخر أسهم في زيادة حدة الأزمة هو قيام الولاياتالمتحدة برفع معدل الفائدة في مارس 2022 ؛ ففقدت الكثير من الدول النامية قدرتها على الحصول على قروض جديدة، واضطرت لتخفيض عملتها المحلية. لذلك أصبحت 19 دولة افريقية عاجزة عن دفع أقساط ديونها وفوائدها، كما فقدت هذه الدول قدرتها على ادارة ديونها باستخدام مواردها لسداد هذه الديون، ولم تعد لديها القدرة على تمويل الاستثمارات، أو المحافظة علي حياة سكانها. يضيف مارك سوزمان: إن قيمة الفوائد التي تدفعها 75 دولة فقيرة معظمها في افريقيا تضاعفت خلال العقد الماضي؛ فهذه الدول يجب أن تدفع 185 بليون دولار فوائد ديون خلال عام 2024، وطبقا للبنك الدولي؛ فإن الانفاق على سداد فوائد الديون؛ يفوق الانفاق على الصحة والتعليم والبنية التحتية. بتحليل تلك المعلومات يستنتج مارك سوزمان أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الدول الفقيرة ستتحول إلى أزمة عالمية؛ فهذه الدول لم تعد قادرة على مواجهة تغيرات المناخ وانتشار الأمراض. هذه الأزمة الاقتصادية ستؤثر على الاستقرار السياسي للدول، وستؤدي إلى انهيارها، وستجبر السكان على الهجرة، مما سيؤثر علي كل دول العالم. إن أزمة الديون التي غرقت فيها الدول النامية خاصة الدول الافريقية ستؤدي إلى انفجار الكثير من الصراعات والحروب الأهلية؛ حيث يشير سوزمان إلى أن الأزمة الاقتصادية في كينيا أدت إلى أزمة بين الحكومة والشعب، فلم يعد الشعب يثق في مؤسساته السياسية. لكن ذلك لا ينطبق على كينيا وحدها؛ فمعظم الشعوب الافريقية تتهم حكوماتها بالفساد والسفه في الانفاق؛ وهذا هو سبب الأزمة، فالحكومات تقوم بالاقتراض؛ وهي تدرك أنها لا تستطيع إدارة موارد الدولة واستثمارها، وإنها لن تتمكن من تسديد هذه الديون، ومع ذلك ليس أمامها سوى الاقتراض لتغرق البلاد في المزيد من الديون. ما الحل ؟! يطالب مارك سوزمان قادة العالم بأن يكتبوا قصة جديدة؛ بإنقاذ 1,5 بليون نسمة في افريقيا.. لكنني أعتقد أنه لن يستمع أحد لدعوة سوزمان، وعلي الشعوب أن تبدأ مرحلة كفاح جديدة لتحقيق استقلالها الشامل، وللتحرر من الاستبداد الذي أغرقها في الديون.