تؤدي الجزائر دوراً أساسياً في صناعة الغاز العالمية منذ عقود. وصدّرت الجزائر الشحنة الأولى من الغاز المسيل إلى أوروبا (بريطانيا) قبل نصف قرن تقريباً. وتستمر في تصدير الغاز المسيل إلى أوروبا من مصنعي «أرزو» و»سكيكدا». وتزود الجزائر دول أوروبا الجنوبية (إيطاليا وفرنسا وإسبانيا) بالغاز عبر شبكة أنابيب تنطلق من حقل «حاسي رمل» العملاق وتمر في تونس والمغرب والبحر المتوسط. وبما أن شبكة الغاز الأوروبية تمتد إلى هذه الدول، يُستعمَل الغاز الجزائري لتلبية الطلب في الدول الأوروبية الجنوبية، بالإضافة إلى بلدان السوق الأوروبية المشتركة. ويُذكر أن أوروبا بدأت تعتمد الغاز الطبيعي وقوداً أساسياً في اقتصادها، في محاولة للانفكاك التدريجي عن النفط الخام. في المقابل، يمثّل «النموذج المصري» حالة جديدة في صناعة الطاقة العربية، فبعد فترة طويلة من عدم الاعتراف بالحقائق، تجد الحكومة أن انخفاض إنتاج الغاز لا يتناسب مع الزيادة في كميات التصدير والاستهلاك المحلي. وتعود أسباب اختلال التوازن إلى عدم اكتشاف احتياطات جديدة وصعوبات في تطوير الإنتاج من حقول ناضجة وزيادة الاستهلاك المحلي بمعدلات عالية جداً تفوق المعدلات العالمية، ناهيك عن زيادة الصادرات. وعالج الخبير البترولي العربي، علي عيساوي، تجربة بلده الجزائر لهذه الظاهرة الجديدة المقلقة. وكان عمل في وزارة الطاقة الجزائرية و»الشركة العربية للاستثمارات البترولية» (أبيكورب) ومعهد أوكسفورد لدراسات الطاقة. انطلق عيساوي في دراسته، التي نشرها المعهد أخيراً، من اجتماع وزاري جزائري طارئ عُقِد في 22 شباط (فبراير) 2016 على مستوى المسؤولين الأبرز برئاسة رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة بهدف إعادة النظر في السياسات الغازية الجزائرية. وسعى الاجتماع إلى مراجعة «السياسات الوطنية في مجال الغاز الطبيعي». يقول عيساوي: «عُقد هذا الاجتماع متأخراً، ما سيجعل أي تحرك جديد عملاً متأخراً». وكان المؤلف نبّه عام 2013 إلى «النموذج المصري»، وحذّر من تناقص صادرات الغاز الجزائرية في شكل مستمر في الأعوام الأخيرة، لافتاً إلى أن استنزاف احتياطات الغاز الجزائري يضيف تحدياً كبيراً، إذ قُلِّص حجم الاحتياطات المقدّرة في 2014. ومعروف أن الغاز يؤدي دوراً أساسياً في الاقتصاد الجزائري، فهو يشكل 51 في المئة من إنتاج الطاقة في البلاد، ويزود محطات الكهرباء والمياه ب 90 في المئة من الوقود اللازم، ويمثّل 39 في المئة من الوقود المخصص لاستخدامات الطاقة الأخرى وكلقيم للصناعات البتروكيماوية والأسمدة. وفي حال ضم السوائل البترولية الغازية، يشكّل الغاز 56 في المئة من إجمالي الصادرات. برزت مشكلة جديدة أخيراً تمثلت في أن انحسار حجم الصادرات ترافق مع انهيار أسعار النفط، ما قلّص الريع النفطي، وخفض في شكل كبير الأموال التي تستطيع الحكومة تخصيصها للمجتمع والتنمية. ومعروف في غالبية الدول البترولية أن الريع البترولي يشكل المصدر الأساس لدخل الحكومة. لذلك لم يكن مستغرباً أن تولي الحكومة الاهتمام اللازم للسياسات الغازية للبلاد على ضوء هذه التطورات الخطيرة، ناهيك عن الفترة الانتقالية الحساسة للعهد الذي سيلي عهد بوتفليقة. واستشهد عيساوي بالعديد من الإحصاءات للتحذير مما حصل ولتبيان وجهات نظره. مثلاً، ارتفع خلال الفترة 2004 – 2014، الطلب على الطاقة في الجزائر بنسبة 4.1 في المئة سنوياً، بينما انخفض إنتاج الطاقة بواقع 0.8 في المئة سنوياً. وأدى هذا الاختلال في ميزان العرض والطلب إلى انحسار مجمل الصادرات الهيدروكربونية للبلاد نحو 2.6 في المئة. وشمل هذا الاختلال الغاز، إذ انخفض إنتاجه من 201.2 بليون متر مكعب في 2008 إلى 179.5 بليون عام 2013. وتُعتبَر الإحصاءات التي أبرزها عيساوي حول تدهور كميات الغاز المسوق (بخلاف الغاز الذي يُحقَن في الحقول لزيادة الضغط) خلال عقد من الزمن، من الأهمية بمكان، إذ أن إنتاج الغاز المسوق منذ منتصف التسعينات سجل قمة معدلاته ليصل إلى 89.2 بليون متر مكعب في 2006. لكن مسلسل الانخفاض بدأ منذئذ ليصل الرقم إلى 79.9 بليون متر مكعب في 2013 و82.5 بليون عام 2015. يعترف عيساوي بصعوبة تقدير كلفة إنتاج الغاز الجزائري، فالجزائر، كبقية الدول البترولية، لا تنشر في شكل دقيق الأرقام المتعلقة بتكاليف الإنتاج، التي تختلف طبعاً من حقل إلى آخر. وقدر عيساوي، بالتعاون مع باحثين آخرين، كلفة إنتاج الغاز الجزائري، التي تتراوح بين حقل «المرك»، حيث ينتج الغاز المصاحب مع النفط (30 سنتاً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية) وحقل «تيميمون» للغاز الحر (4.70 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية). وتختلف تكاليف الإنتاج وفق كميته، فكلما ارتفع الإنتاج، انخفضت التكاليف والعكس صحيح.
اللافت في صناعة الغاز الجزائرية، كما هي الحال في «النموذج المصري»، ازدياد الاستهلاك المحلي مع انخفاض الإنتاج. فبينما انخفضت معدلات الإنتاج خلال السنين العشر الماضية، كما تبين أعلاه، ارتفع الاستهلاك المحلي 5.2 في المئة سنوياً من 22.6 بليون متر مكعب في 2004 إلى 39.5 بليون عام 2015. هذا يعني أن الاستهلاك الداخلي بات يستأثر أكثر وأكثر بمجمل الغاز الجزائري، إذ استحوذ الاستهلاك الداخلي على نحو 47.9 في المئة من الغاز الجزائري المنتج في 2015.