مجاهدة النّفس كما عرّفها الإمام الجُرجاني في كتاب التعريفات هي محاربة النّفس الأمّارة بالسُّوء بتحميلها ما يشقّ عليها بما هو مطلوب في الشّرع، وتكون مجاهدة النّفس لكبح جِماحها، وحملها على ما يُرضي ربّها.. ولذا أمر اللّه عزّ وجلّ نبيَّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين معه بالقيام باللّيل والذِّكر الدّائم بالنّهار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت:69. إنّ الأصل والأساس هو جهاد النّفس. فإنّ العبد ما لم يجاهد نفسه أوّلًا فيبدأ بها ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوّه الخارجي مع ترك العدوّ الداخلي، ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: "المجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة اللّه، والمُهاجر مَن هجر ما نهى اللّه عنه". فضل المجاهدة قال العلامة ابن رجب: "إنّ في حبس النّفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفّها عمّا تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصّغائر"، وأضاف: "فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه، وحصل له النّصر والظفر، وملك نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومَن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غلب وقهر وأسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه". من جامع العلوم والحكم. أهمية المجاهدة يقول الإمام سفيان الثوري رحمه اللّه: "ما عالجتُ شيئًا أشدّ عليّ من نفسي، مرّة لي ومرّة عليّ". وقد ذكر العلامة ابن رجب الحنبلي أنّ أبا بكر الصّدّيق كتب لعمر بن الخطاب عندما استخلفه: "إنّ أوّل ما أحَذِّرُك منه نفسك الّتي بين جنبيك". فإذا كان سيّدنا أبو بكر الصّدّيق رضي اللّه عنه يرى أنّ أوّل الخطر من نفس عمر رضي اللّه عنه، ويرى المحدّث سفيان الثوري رحمه اللّه أنّ علاج أهواء النّفس من أشقّ الأعمال، فإنّه يجب على المؤمن أن يهتم في هذه الفتن والأهواء بأعلى درجات المجاهدة للنّفس حتّى يسلس قيادها، ولذا قال اللّه سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} النّازعات:37-40. مجالات المجاهدة يشمل هذا مجاهدة النّفس في فعل الخيرات والقُربات واجتناب المحرّمات والسّيِّئات وفق ضوابط الشّرع كإسباغ الوضوء في شدّة البَرد من جنس الآلام الّتي تحصل للنّفوس في الدّنيا، وحبس النّفس في المسجد لانتظار الصّلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع الّتي تميل النّفوس إليها، إضافة إلى الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة وكذلك رمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ ما اجتنبتَ الكبائر. والشّهادة في سبيل اللّه تكفّر الذّنوب بما يحصل بها من الألم، وترفع الدّرجات بما اقترن بها من الأعمال الصّالحة بالقلب والبدن، وغير ذلك ممّا وردت فيه نصوص شرعية. ضوابط المجاهدة قال التابعي الحسن البصري رحمه اللّه تعالى: "يا مَن يطلب من الدّنيا ما لا يلحقه أترجو أن تلحق من الآخرة ما لا تطلبه". وقال أيضًا: "لا تحملنّ على يومك هم غدك، فحسب كلّ يوم همّه"، من أدب الدّنيا والدّين للماوردي. وأضاف: "إذا نظر إليك الشّيطان فرآك مداومًا في طاعة اللّه، فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا ملك ورفضك، وإذا كنتَ مرّة هكذا ومرّة هكذا طمع فيك" من كتاب الزُّهد والرّقائق لابن المبارك. وقال التابعي عبد اللّه بن المبارك رضي اللّه عنه: "من أعظم المَصائب للرّجل أن يَعلمَ من نفسه تقصيرًا، ثمّ لا يبالي ولا يحزن عليه" من كتاب شُعَب الإيمان للبيهقي. صور من المجاهدة دخل رجل على سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه، فقال له عمر: "إنّك إن تلقَى اللّه ومَظلمتك كما هي خيرٌ لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها" من كتاب إحياء علوم الدِّين لحجّة الإسلام الغزالي. وكان عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه لا يسجُد إلّا على التُّراب. من كتاب الرسالة للإمام القشيري. ويقول سيّدنا الحسن رضي اللّه عنه: "أي قوم، المداومة المداومة؛ فإنّ اللّه لم يجعَل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت" من كتاب الزُّهد والرّقائق لابن المبارك. وقال الحسن رضي اللّه عنه: "رحم اللّه عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان للّه أمضاه، وإن كان لغيره تأخَّر". فالنّفس إذا أطمعَت طمِعت، وإذا فوضّتَ إليها أساءَت، وإذا حملتها على أمر اللّه صَلُحت، وإذا تركتَ الأمر إليها فسدت، فاحْذَر نفسك، واتّهمها على دينك، وأنزلها منزلة مَن لا حاجة له فيها، ولابدّ له منها، وإن الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتّى تعترف بالحقّ، وإنّ الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق فمَا أحبّت منها أحبّ، وما كرهَت منها كره.