من خلف الأفق البعيد، هناك في أعالي السماوات العربية تستنسخ وجوهنا وملامحها نفسها أبدا، وحالك لوننا دائما كأننا نعيش اليوم ذاته والزمن ذاته، مع اختلاف في التأريخ، برغم أن الشمس تمنحنا مع كل إشراق لها، مشكورة، فرصة كي نبحث عن خلاصنا قبل فوات أوان الخلاص. تتكرر الصورة على المنوال ذاته، ولا يكتسي مشهدنا العام ألوانا جديدة تضاهي ألوان هذا العصر ومنجزاته، والذي ننتمي إليه انتماءً فيزيائيا فقط، لأن الأصل واحد، ولا يمكننا أن نستنسخ من الأصل الواحد غير صورة واحدة. تعاني الثقافة العربية ركودا حادا منذ قرون طويلة لأسباب بعضها موضوعي وأكثرها ذاتي، باستثناء بعض الفترات. لم نجدد وعينا الثقافي ولا خطابنا العاقل الذي يُفترض أن يتولد عن ثقافة عالمة لها أفكار وأطر معرفية جديدة تماما تجبّ القناعات المهلكة التي تم إلحاقها بالدين زورا وبهتانا، وتأسس على إثرها وجودنا الحضاري برمته. بدرت للثقافة العربية، بمعنى الأفكار ومناهج التفكير في التاريخ والفلسفة والدين والعلوم والحضارة، بوادر نهضة في العصر الحديث، ثم نكص العرب على أعقابهم واستطابوا أن يستطيل بهم الليل ما شاء لهم خوفهم من النور، وركنوا إلى يقين الأوهام، واتخذوا من ثقافتهم بغثها وسمينها ما ظنوا بأنه حائط صدّ ضد كل جديد قد يهدد وجودهم. تبني الجماعات البشرية قناعاتها وتثبّت ثقافتها الخاصة، بمرور الزمن، في وعي ووجدان المنتسبين إليها والمتشبعين بها، ويكون ذلك مهما في حفظ الجماعة وصنع تفردها وغيريتها عن الباقين، كما يساعدها من وجهة نظر وظيفية على توجيه سلوك أفرادها وزيادة ترابطهم. وبمرور الزمن كذلك، قد يصبح من الصعب على الثقافة الراسخة لتلك الجماعة أن تجابه التحديات والتجديدات التي ترافق عملية التطور الإنساني والحضاري، بهذا المعنى تصبح تلك الثقافة سجنا فكريا ومعرفيا لأفرادها إذا فشلت نخبتهم في تجديدها وجعلها متوافقة مع مقتضيات الزمن الثقافي العام، وليس الفيزيائي، الذي تعيشه وسط المجتمعات البشرية الأخرى التي تتفاعل معها وتتبادل فيما بينها أدوار الغلبة والتبعية. وبهذا فإن الثقافة العربية هي مأزقنا وطوق نجاتنا في آن. إن التجدد الحضاري لهذه الكتلة الثقافية الممتدة من المحيط إلى الخليج، ولا أستطيع أن أسميها غير ذلك، هو بالضرورة تجديد لمفاهيمها الأساسية ولمقومات دورها وعلاقاتها مع الآخرين، وللأفكار المهيمنة، ومنظومة القيم، وللنظرة إلى الفرد وللعلاقات الداخلية التي تربط أفرادها وجماعاتها. ولا يكون هناك تجديد للمفاهيم الأساسية بغير أفكار جديدة ومناهج مغايرة نطرق بها مشكلاتنا لنجد لها حلولا مبتكرة، لا حلولا أو إيديولوجيات مستوردة لا جذور لها في بيئتنا ظللنا نجربها للحاق بالركب الحضاري فأضلتنا وزادت من حدة تلك المشكلات بدل حلها إن المطلوب هو أن تتحوّل ثقافتنا من سجن لنا، إلى سفينة نوح ننجو بها وتنجو بنا، وسلاح نجابه به نظراءنا في هذا المعترك الحضاري الكبير.