الجزء الأول كانت تقاسيم الأسى تخيم على وجوههم، أكباد أضناها الذهاب والإياب دوريا إلى السجون، من أجل "قفة" شاءت الأقدار أن يقتادوها لذويهم من خلف القضبان، وأصرت مؤسساتنا النظامية على إبقاء التعامل بها كغنيمة حرب لن تفرط فيها، رغم التحسن الكبير في وضعية نزلاء المؤسسات العقابية.. "القفة" التي كانت بالأمس معيلا للنزلاء أضحت اليوم "قنبلة موقوتة" في وجه مؤسسات الدولة، زطلة، كيف، أموال، هواتف نقالة، شفرات حلاقة، وأسلحة بيضاء تسرب عبرها، لتفتح جبهة صراع جديدة في عالم ما وراء السجون. ليلى أعراب تسلط "الحوار" في عددها اليوم الضوء على معاناة الأسر، ممن أضناها تحمل أعباء إضافية لملء "قفة" قد تعيل ذويهم من نزلاء المؤسسات العقابية، وتلقي الضوء على المناورات الاحتيالية والطرق الجهنمية لإدخال الممنوعات إلى مؤسسات إعادة التربية، وإن اختلفت القفة حسب اختلاف جنس ونوعية السجناء، إلا أنها محددة بمعايير وضوابط صارمة قد تعرض مخالفيها إلى عقوبات لا تحمد عقباها.
قفف "لوكس" لا تخطر ببال بشر
واستفسرت "الحوار" عن الضوابط المسطرة من طرف المديرية العامة للسجون في أنظمتها الداخلية حول نوعية القفة، حجمها، والمسوح والممنوع منها، لدى الجولة التي قادتنا إلى المؤسسة العقابية الحراش نهاية الأسبوع الماضي، والتي تزامنت مع يوم استقبال قفف المساجين، وعلمنا أن المديرية تركت المجال واسعا للعائلات لجلب ما لذ وطاب لمساجين لا تصح تسميتهم سوى بالمدللين خلف القضبان، ولكن آخرين أيضا لم تصح لهم سوى صدقات المحسنين، ممن ينحدرون من بيئات اجتماعية فقيرة. ولم يتوان أعوان الأمن في منحنا المعلومات الكافية بخصوص قائمة الممنوعات، والتي علمنا أنها تبدأ بالملابس الواجب جلبها للسجين، حيث يحضر إدخال الملابس ذات القبعات، والجوارب الشفافة، والأحزمة، كي لا تستعمل كأسلحة بيضاء بين نزلاء المؤسسات العقابية، ومن الأطعمة يحضر الملوخية ، المدفونة، المعقودة ، الطواجن، المحشيات، المرقاز، البروكلي، الكفتة، العصيدة، السمك المغلف بالفرينة، اللحم النيئ وكذا الخمر، المخدرات، الأدوية بكل أنواعها، التي قال أعوان الأمن أنها تستخدم كستار للمنوعات داخل المؤسسات العقابية، مقابل أن تقوم إدارة السجن بتوفير بعض المواد التي يمنع قبولها بالقفة مثل الخبز وبعض أنواع المصبرات والحلويات وغيرها، أما المسموح به في القفة فيشمل سكر القطع، والتمر المنزوع اللب، بعض أنواع الحلويات البسيطة، فيما تقشر الفاكهة وتقطع إلى مكعبات صغيرة قبل إدخالها إلى السجين، كما لا يحظر إدخال التبغ وأكياس الشمة إلى المساجين. وذكر لنا القائمون على الاستقبال أن القانون يمنع إدخال أزيد من 10 كيلوغرام و900 غرام للسجين، ولا تقبل إدارة السجون مختلف القفف التي يصل وزنها 11 كيلوغرام، وهو ما يدفع العديد من العائلات إلى التحايل باستخدام الدفتر العائلي لزيارة المسجون من طرف والدته أوأخواته المتزوجات أوأخواله وإحضار أكثر من قفة واحدة.
وللسجينة احتياطات خاصة ومما لا يدع مجالا للشك، فإن قفة السجين تختلف من الناحية الإجرائية عن قفة السجينة، دون أن تتعداها إلى الإجراءات الشكلية من حيث الحجم والوزن، الذي لا يجب أن يتعدى 11 كيلوغرام للقفة الواحدة، وتسمح إدارة السجون، حسبما علمنا من المصادر ذاتها، أن أهالي السجينة يسمح لهم بإدخال حليب الرضع، حفاظات الأطفال، قارورات الرضاعة، ملابس الأطفال لفائدة الأمهات السجينات المسموح لهن بحضانة أولادهن، حيث لا تمانع إدارة السجون في بعض الحالات الخاصة من السماح للسجينة الحاضنة بإبقاء رضيعها معها إلى ما بعد الفصام، ويولد سنويا نحو30 طفلا لأمهات توجدن حاليا سجينات، صدرت في حقهن أحكام عن جرائم اقترفنها، البعض منها طويلات الأمد، أو كن حاملات وولدن خلف أسوار السجون، كما لا تحظر القواعد التنظيمية لمديريات السجون على أهالي السجينات إدخال الوجبات الخاصة بالحمية الغذائية التي تتبعها مختلف النسوة وإن كن سجينات حفاظا على القوام الرشيق، وبعض الأعشاب التي من شأنها تخفيف الوزن، كما يسمح بإدخال أدوات التجميل والماكياج ضمن قفة السجينة، بناء على طلب من هذه الأخيرة، ولا يحضر إدخال المصاحف والجلابيب إلى نزيلات المؤسسات العقابية.وعلمنا أن إدارة السجون تعطي معاملات استثنائية في إجراءات الحبس ما بين السجين والسجينة، حيث تسمح لأهالي السجينة بإجراء زيارات مقربة لمدة 20 دقيقة عند جلب القفة، في قاعة محددة، والحديث إليهن مباشرة دون هاتف، أو ستار، على عكس التنظيم المعمول به في حق الزيارة لدى المساجين.
وماذا عن المساجين السياسيين!
وبخصوص المساجين السياسيين، قدرت الجهات القضائية المختصة عددهم ب 140 سجينا موزعين عبر عدد من السجون في ربوع الوطن، بعد أن تورطوا في قضايا تتعلق بأمن الدولة خلال فترة التسعينات، ويعاني غالبيتهم من أمراض مزمنة وآخرون قد شارفوا على سن ال 70 وحتى ال 80 سنة وهم يقبعون في السجون. وتشدد إدارة السجون رقابتها على القفف التي تدخل إلى المساجين السياسيين، والتي قد تحوي المكاتيب الواردة إلى السجين والمكاتيب التي يرسلها إلى الجهات أوالأشخاص التي يرغب في التواصل معهم، كما يمنع على أهالي السجين السياسي، إدخال الرسائل مجهولة المصدر، الرسائل الغامضة والتي يكون محتواها غير عادي، رسائل السب والشتم والرسائل المحتوية على رسوم أو ألفاظ تهديد أو شماتة أو مخلة بالآداب. ويقع تأمين الرسائل الداخلة والخارجة عن طريق مكتب البريد الذي يتكفل أيضا بمراقبة كل محتويات الرسائل، فيما تتفادى إدارة السجون إدخال كل ما من شأنه أن يخل بأمن السجن، خصوصا وأن السجين قد يقع ضحية سرقة للصور التي بحوزته ومساومات من طرف بعض المساجين نظرا لقيمتها العاطفية، وقد تقع سرقة الصور واستغلالها لأغراض دنيئة. وتقوم المديرية العامة للسجون بالمراقبة الصارمة للطرود البريدية التي يتلقاها السجين، بما في ذلك السجين السياسي، ويحظر تداول أي أدلة إدانة أو إثبات براءة ضمن القفة المرسلة إلى السجين.
.. وقفة لابن السجين كذلك
وإذا كان السجين يتمتع بحق قفة تغنيه عن الأطعمة المتوفرة في السجون، فإن ابن السجين يتمتع بدوره بحق قفة استحدثتها المنظمة الوطنية لرعاية وإدماج المساجين، وللوهلة الأولى خيّل إلينا أن المقصود بقفة ابن السجين، هم الأحداث المتواجدين بالمؤسسات العقابية، لكن المعنى مغاير تماما، فقد خصصت المنظمة التي يرأسها عمار حمديني، قفة موجهة لعائلات أهالي السجين من الفقراء والمعوزين العاجزين عن تأمين لقمة العيش لهم ولذويهم من وراء السجون. واتضح لدى اتصالنا هاتفيا برئيس المنظمة، أن هذه القفة التي تتعدى قيمتها المالية 5 آلاف دينار جزائري، متكونة من صدقات المحسنين وأهالي الخير، الذين رصدوا قرابة 5 ملايير سنتيم سنويا، كمساعدات إنسانية مادية لأهالي المسجونين، على غرار ما هو معمول به في قفة رمضان، أين تخصص الأطعمة والألبسة لسد حاجيات الأسر المعوزة.
تسممات غذائية ونظافة منعدمة وحدث ولا حرج
ووقفت "الحوار" على بعض الحالات من العائلات ممن يفتقرون لأدنى شروط النظافة في إعداد القفة، فواكه معرضة إلى الشمس، مأكولات مجمدة داخل القفة وغيرها، مما قد يتسبب في حدوث بعض التسممات الغذائية، بفعل الحرارة، كما تسبب نوعية بعض المأكولات في مضاعفات صحية، خصوصا في أوساط المصابين بالأمراض المزمنة. وكانت المديرية العامة لإدارة السجون وإعادة إدماج المحبوسين، قد أمرت في وقت سابق مديري المؤسسات العقابية باستقبال قفف المساجين مرة واحدة في الأسبوع، بدل مرتين، خلال فترة الصيف، بعد أن تبين بأن بعض المأكولات التي تصل إلى المحبوس داخل القفة، في ظروف غير صحية أحيانا، بفعل الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة. وكشف لنا بعض الأعوان الذين تحدثنا إليهم عن حالات تسمم غذائي كادت أن تودي بحياة المتواجدين وراء القضبان، بسبب انعدام شروط الحفظ والنظافة، خصوصا في فصل الصيف، ولم ينكر هؤلاء جهود إدارة السجون في تفادي طبخ وجبات ومأكولات سريعة التلف تضر بصحة المحبوسين، فضلا عن مراقبة صلاحية مياه الشرب لتفادي إصابة المساجين بالإسهال، كما أكدوا لنا إخضاع المصابين بأمراض مزمنة للمراقبة الصحية المستمرة، ومحاولة الحد من حالات التبذير في الأطعمة، التي أصبحت تميز المؤسسات العقابية في الآونة الأخيرة. .. قفة السجين الوجه الآخر وأثناء جولتنا في بهو قاعة الاستقبال بالمؤسسة العقابية الحراش، استوقفتنا الحراسة المشددة على قفف السجين، تفاديا لدخول الممنوعات إلى المؤسسات العقابية، وروى لنا البعض ممن تحدثنا إليهم حالات لم تتوقف فيها قفة السجين عند حدود المحظور، وعلمنا أن العديد من أهالي المساجين يتعمدون إدخال الزطلة، الكحول، الأسلحة البيضاء، شفرات الحلاقة، الأموال، الهواتف النقالة إلى المؤسسات العقابية، كما أن طرقهم الجهنمية لا تتوقف في حدود ما هو متعارف عليه، أي داخل الأحذية والملابس، بل تتعداها إلى ما يصعب للعقل تصديقه. وذكر لنا أحد الأعوان قصة عجوز في الستينات، تمكنت من إدخال المخدرات إلى ابنها المسجون بالمؤسسة العقابية داخل حبات الزيتون، حيث رصدت أجهزة السكانير الموضوعة عند حواجز المراقبة، مجموعة من الأقراص المهلوسة داخل الطبق، فيما اهتدت أخرى إلى إدخال شفرة حلاقة "لام" داخل حبة "محاجب"، وقامت أخرى بدس كمية من المخدرات من نوع القنب الهندي داخل "مقروط اللوز" الذي يحتوي على مسحوق السكر الأبيض، حيث تمكنت من خلط المادة المخدرة بالسكر لتمريرها، كما نجحت مصالح الرقابة العام الماضي، في ضبط زوجة حاولت تمرير كمية من المخدرات لزوجها المسجون في قضية مخدرات أيضا، داخل "البوراك" ليتم توقيفها وإحالتها على التحقيق ووضعها رهن الحبس، أين أكملت باقي أيام شهر رمضان مسجونة ومن دون "بوراك" لها ولزوجها، كما تسببت في منع إدخال "البوراك" لباقي المساجين. وتستخدم الفواكه عادة على غرار الدلاع والبطيخ في إدخال الخمر إلى السجناء، وتفادي الوقوع في أيدي أعوان الحراسة والمراقبين المكلفين بمراقبة قفة المسجون، فمجرد ما يتناول المسجون برج واحد من الدلاع أو البطيخ، فإنه يثمل ويسكر، فيأخذ بذلك غايته من الخمر الذي من المستحيل أن يحصل عليه داخل المؤسسة العقابية.
أعوان الأمن ومستخدمو السجون في قفص الاتهام ومن الوارد جدا أن يتواطأ رجال الأمن في حالات "نادرة" مع أهالي المساجين لإدخال الممنوعات إلى عالم ما وراء السجون، عن طريق علاقات مشبوهة بين بعض عناصر الحرس في السجون مع المساجين، من خلالها يوفرون لهم الهواتف للاتصال ويغضون الطرف عن أية خروقات يقوم بها هؤلاء السجناء، وأحيانا يقومون بربط صلات بينهم مع محامين للدفاع عنهم. وبالرغم من عدم وجود أدلة مقنعة عن صحة هذه الفرضية، إلا أنها تبقى واردة، وإلا كيف نفسر قيام سجناء نافذين بالمتاجرة بكل شيء، في أماكن النوم، ومساحات السجون، ويفرضون قوانينهم داخل المؤسسات العقابية، يتاجرون بالمخدرات والهواتف الخلوية، بعيدا عن أعين الرقابة الصارمة لرجال الأمن، وبالرغم من وجود كامرات المراقبة التي من شأنها أن تضبط الوضع داخل السجن وتكشف المخالفين للقوانين والمتورطين في إدخال الممنوعات، إلا أن عمليات التهريب المتكررة لا تزال تحدث بشكل يومي.
الرقابة الصارمة لصد الانزلاقات وتخضع السجون على العموم إلى عمليات رقابة صارمة، بداية من القفة التي يجلبها أهالي المساجين إلى المساجين في حد ذاتهم، وذلك بإخضاع المساجين في الزنزانات للتفتيش المستمر، تحسبا لأي طارئ قد يحدث، مع تعزيز تواجد الحراس في المناطق الحساسة داخل المؤسسات العقابية، مثل أبواب القاعات والزنزانات التي يقضي فيها السجناء عقوباتهم، فضلا عن عمليات تفتيش وإحصاء السجناء ثلاث مرات في اليوم، تفاديا لانتشار الممنوعات داخل المؤسسات العقابية. وفي الشق الجزائي، فإن المشرع الجزائري كان صارما من خلال المواد 166 و170 التي تنص على معاقبة كل من حاول بنفسه أو عن طريق الغير تسليم محبوس في غير الحالات المقررة قانونا، مبلغا ماليا أو مراسلة أو دواء أو أي شيء غير مرخص به، وتكون العقوبة من 6 أشهر إلى 3 سنوات حبسا نافذا وبغرامة من مليون إلى 5 ملايين، كما أن نص المادة 170 تنص على عقوبة من 3 إلى 5 سنوات وبغرامة من مليون إلى 5 ملايين لكل من أدخل أو حاول إدخال مواد مخدرة أو مؤثرات عقلية أو أسلحة أو ذخيرة إلى المؤسسة العقابية، وتم تشديد العقوبة في الفقرة الثانية إذا كان حارسا أو شخصا مؤهلا بحكم اقترابه من المحبوسين، وتكون العقوبة المسلطة عليه في هذه الحالة من 5 إلى 7 سنوات حبسا نافذا.