مما مر بي من أحداث مؤلمة شاهدتها بأم عيني فتاة ترمي بنفسها من الطابق الأعلى في موقف للسيارات، فارتاع جميع من حضر وأعظمنا الخطب الذي شاهدناه، وتصورت في تلك الثواني المعدودات -أثناء الهوي- طفلة ملئ إهابها طهر وجمال ونشاط، تدرس في كلية الطب، وماقدرت حينها أن أتصورها مزقا من اللحم اختلط بعضه ببعض، لكننا رأيناها بعد هذا السقوط مغميا عليها، وقد سألت عنها بعد تلكم الحادثة المؤلمة فقيل لي إنها بقيت من الأحياء في هذا الوجود ، مصابة بكسور في رجليها، في موقف تعتقد فيه استحالة بقاء مثلها على قيد الحياة. ومما قرأناه قديما في كتب الأخبار والنوادر أن اثنان سافرا ، وفيما أدركهم الليل آواهم إلى بيت قديم مهترئ البناء مائل الحيطان فتناقشا فيما بينها أن يأخذا سنة من النوم داخله، فأما أحدهم فرفض المبيت فيه، وأما الآخر فآثر أن يدخله لأخذ قسط من الراحة يمتص به تعب المسير، وفيما هم نائمان هبت ريح شديدة هدمت الدور، فأما الذي كان خارج المنزل فقد مال الحائط عليه ومات رديما لساعته ، وأما من كان بالداخل فقد نجا حين كان حظه بعد سقوط الحائط والجزء المفتوح في الحائط كان السبب في نجاته قال أحدهم بعد أن ذكرنا فيما بيننا هذا الحديث : ففيم إذن نفكر ونتدبر مادام لا ينفعنا فكر ولا يفيدنا تدبير، ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري في أعنتها ، ولا ينام أحد إلا خالي البال، مادمنا لا نملك أنفسنا ونعرف مصائرنا، ومادام هذا الكون كالمعمل الضخم، المشتبك الآلات ، المتعدد الحركات، ما نحن في إلا آلة بسيطة يسيرنا مديره الأعظم . قلت : كل قد فكر في هذا الأمر من زاويته وعلى حسب ما وهب من قوة العقل والفكر، والناس في هذا مذاهب وأهواء، فمنهم من سيقول : خلقنا للشقاء، وصرنا هدفا للمصائب، ودنيانا هذه ما فيها إلا الآلام وانعدمت فيها الآمال، من لم يمت بسقطة مات بعلة، أو مات وهو المعافى السليم. وآخر سيقول ظانا نفسه من كبار العقلاء- أنا لا أومن بما ترونه مما تسمونه القدر، وربما جحد المقدِّر، وقد يزعم أن الحياة ليست إلا كعجينة في يدك، أنت تديرها وتصورها فإن شئت صنعت منها لعبة جميلة كان لك جمالها، وإن شئت عملت منها شيئا قبيحا كان عليك قبحه. إن مرضت فمن إهمالك التوقي وأخذ الحيطة، وإن دهست في قارعة الطريق فمن تركك الحذر، وإن افتقرت فمن سبب القعود عن السعي ..وأمثال هذا الكلام قلت: أحداث تقع في الكون قدلا يستطيع العقل لوحده إيجاد تفسير منطقي لها فلماذا نبغ هذا الذي نبغ حتى صار ذكره على كل لسان، وربما عد من الشخصيات الأكثر شهرة والأسير ذكرا، وقعد من هو اشد ذكاء وأنبغ نبوغا، ولماذا يسعى الذي يسعى على مشاريع يبغي تحقيقها على واقع الوجود ، ثم لا يرجع منها بغير خفي حنين ، لماذا ولماذا .... فماذا الإنسان في الوجود ؟ هل يستطيع تسيير الكون على هواه؟ أو هل يسير الأقدار لغايته؟ وقد خلق كل واحد على ماخلقه فاطره، فمضوا وفق ماخلقوا عليه، فهل يستطيع أحد أن يزداد شيئا في بنانه أو أركانه؟ قال محدثي فهل ترى الإنسان مسير أم مخير ؟ قلت مالنا ولهذه الفلسفة الفارغة التي أكلت من جهد ومقدرات أمتنا الكثير الكثير ، وذهب فيها الخلق منذ القدم طرائق قددا، فتجد أحدهم يترجم مذهب القدر بالجبر، وأن الإنسان لا خيرة له ولا قدرة على الأخذ والترك منكرا إنسانيته، فهو كالريشة في مهب الريح، أو كالحجرة التي تدور بدوران الأرض فلا قدرة ولا تحكم في المصائر، ورفع شاعر عقيرته بهذا المذهب ناصحا كل مجد مجتهد في الدنيا بالقعود وعدم أخذ هم الحياة على عاتقه فقال : والسعي للرزق والأرزاق قد قسمت بغي ألا إن بغي المرء يصرعه أو الآخر الذي زعم أن هناك افتئاتا وعدوانا من الجهة العليا، حين خلق ثم أمر ونهى، وثم نزل في كتبه أنه العليم بكل ما سيقع من البشر جزءا وكلا فقال: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء وزعم مخالفه أن الحياة ملك الإنسان وصنع يديه. قلت: نحن بشر لا آلهة ولا حجر ... ...... يتبع