القرآن والحياة يؤسس القرآن للعقيدة ومسار التوحيد في شكل ميثاق يتوارثه أولي العزم من الرسل لإعمار الأرض ومواجهة كل أشكال الفساد، ورغم تفرق الآيات يمكن جمعها في نسق الموضوع الواحد، تهدف إلى غاية واحدة، وهي وحدة الرسالة والنماذج، تتطابق من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وتكون البداية مع نوح عليه السلام، حيث التصريح مباشرة برسالة التوحيد ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه، إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله وأني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾- هود 26. يحمل اللواء بعده إبراهيم عليه السلام، دون تغيير أو تحريف في مسار رسالة التوحيد ﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين﴾- الزخرف 26-27، وهي دعوة للقطيعة مع ما يعبده الآباء من أوثان، تخالف الفطرة النقية في التوجه لله الواحد. ويسير موسى عليه السلام في ركابهما، يواجه أعتى طاغية مستجيرا بالله الواحد ضد تهديد ووعيد فرعون ﴿وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ﴾- غافر 27. ويصدق بذلك عيسى عليه السلام في دعوة قومه إلى عبادة الله، واتباع الصراط المستقيم ﴿فاتقوا الله وأطيعون، إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾- آل عمران 51. وعلى هذا الأساس اهتم المنهج القرآني في عرض قصص أولي العزم، بإيضاح وحدة الرسالة كقاسم مشترك تكتمل هذه الوحدة في الرسالة الخاتمة ﴿قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت﴾ – الأعراف 158. ولو تدبرنا الآيات بعمق وحاولنا فهم الدروس العملية لتوصلنا إلى الآتي: رغم تفرق النماذج في سور مختلفة، إلا أن ما قاله الأنبياء عليهم السلام متشابه، وكأنه كلمة واحدة ورسالة واحدة في منظومة واحدة، يحكمها منهج واحد لا يعرف التفاوت، وهدف واحد لا يعرف التجزئة والتعدد. يبرز المنهج القرآني في قصص أولي العزم البعد الإيماني كمحور أولي تندرج تحته كل المحاور، والذي يتجسد أساسا في المهمة الرسالية، التي توارثوا تبعاتها، كل نبي يسلم الراية لغيره عليهم السلام جميعا، وجاءت الرسالة الخاتمة في شمولها ونضجها كمرحلة حاسمة ونهائية، ليكون القرآن العظيم المعجزة الخالدة مستوعبا لمقتضيات الإنسان داخل الحياة العريضة، وإرساء الإيمان مرتكزا ضروريا متصلا بالعمران، أكبر رسالة حضارية، يتناقلها الناس جيلا بعد جيل. ومن ذلك تتجلى قيمة البعد العقدي في قصص أولي العزم عليهم السلام في بنية منسجمة، تحكمها وحدة القانون السنني العام، بمعزل عن شخصيات الأنبياء، ومتغيرات الزمان والمكان. هناك نسق منتظم، فالمنهج القرآني يؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث المختلفة، وهذه العلاقات هي ما سميناها بالأسباب والعلل، إلا أنّ هذه الروابط والعلاقات، بين الحوادث المختلفة في الزمن، المتباعدة في التفاصيل، هي في الحقيقة تعبير عن قدرة القرآن المعجزة على معالجة الملمات الطارئة بناء على فهم وتبصر وحسن تقدير للحكمة من كل هذا التعالق والتواشج، والفرق ظاهر بين التفسير التعميمي الضيق الأفق في ربطه الأحداث الجزئية بالغيب مباشرة، بناء على العجز عن التوصل إلى حقيقتها، وقصور عن فهم كننها، وبين تفسير ينفتح على الأفاق الرحبة، لأنه يفسر الحوادث المشتركة على ضوء القانون الإلهي في شبكة من العلاقات والنظم النابعة من الأسباب والعلل، يقول الشيخ الغزالي في كتابه "كيف نتعامل مع القرآن": "إننا نجهل مؤقتا القانون الذي يسيطر على ظاهرة ما زالت تخفي علينا طريقة حدوثها ومع ذلك، فإن المذهب يظل منسجما منطقيا مع مبدئه الأساسي، لأن مثل هذه الظاهرة يمكن تفسيرها في التحليل النهائي، على حتمية مطلقة". (ص 9)، وهي حتمية القانون السنني العام في قصص أولي العزم بين وحدة الرسالة ووحدة القانون. يتببع