تفسير المؤمنين أهل الاستقامة أهل الله وخاصته الجزء الثاني والعشرون إن منهج الهداية الذي تصوره سورة الفاتحة هو منهج الدعوة الأولى التي على أساسها قامت حركة الحياة كلها، وبها يصلح أمر الناس جميعا، لأنها هداية موصولة بإقرار حق واجب الوجود الذي تعني معرفته: أن الهداية لا تكون إلاّ من الله وحده وإلى الله وحده لا شريك له. وأن الله كرمنا كوننا آدميين بما لم يكرم به أيًّا من مخلوقاته بحمل الدين. وأن أكرمنا عند الله أكثرنا تمسّكا بمنهجه علما وعملا وقدوة في الناس. وأن عقود الله لا يحلها إلاّ من "تحلل" منها كفرانا أو تهاونا. وأن الهداية تظل "فلسفات" تجريدية وتهويمات سفسطائية ما لم يدرك علماء الكلام أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهل هناك ما هو أقوم من كلام الله القويم، فمنه ينبع "الفقه الأكبر" هداية للقلوب ونورا للأبصار وثباتا لحركة الحياة..قبل أن تفيض به أقلام العلماء وتتناوشه الفرق باسم علم الكلام أو تتجاذبه التيارات باسم علم العقائد وعلم الأصول وعلم التوحيد..نقلا وعقلا، بما تصح به العقيدة ويحرس به الدين ويثبت به المسار ويصلح به العمل وينال به أهل التوحيد جزاءهم الأوفى يوم القيامة. والسؤال الذي يطرح باستمرار على ألسنة الفلاسفة والمتكلمين هو: لماذا يعلو الضلال ويطفو على السطوح بينما يتوارى الحق ويعز عن طالبيه؟ إن أهل الاستقامة لا يظهرون في الدنيا لأنهم منسجمون مع حركة الحياة بينما يطفو أهل الانحراف والاعوجاج والنزق على جميع السطوح، لأن الناتئ غير مستوٍ فأهل الخير السائرون على صراط الله المستقيم لا نتوء فيهم لأن نفعهم عام ولكنه نفع لا تتحدث عنه وسائل الإعلام، لأنه نفع هادئ غير ناتئ وغير مرائي..بلا بروز وبلا ضجيج، ذلك أن حركة الحياة كحركة المرور كل سائر على الصراط المستقيم لا يلفت إليه الأنظار أما المسْرعون والمتسرعون والمدلفون على جنبات الطريق فلهم ملحظ ولأصواتهم دويّ وضجيج، فالمنكر ليوم الحساب يفعل ما يشاء دون رقيب ولا حسيب، وليس هناك كبير فرق بين من عرف الحق وجانبه، وبين من اعتقد الباطل ولازمه، فالمسافة متقاربة بين الفريقين: فريق المغضوب عليهم، لأن سيرهم في الحياة كان خارج هدي الصراط المستقيم وفريق الضالين لأن عبادتهم كان فيها "إخلاص" للضلال ومجانفة للحق وانحراف عن الصواب. فما معنى المغضوب عليهم؟ وما معنى الضالين؟ وما الفرق بينهما؟ ومن هم هؤلاء؟ ومن هم أولئك؟ وهل يوجد خارج هذين الصنفين صنف ثالث لا هم من مغضوب عليهم ولا هم من الضالين ولكنه صنف يتحرك بعيدا عن الصراط المستقيم؟ نعرف من تاريخ الدعوة والرسالة أن البشرية وقفت من المنهج الإيماني أربعة مواقف كبرى تفرعت عنها سبل كثيرة يمكن رد فروعها إلى أصولها إذا فهمنا معنى "الصراط المستقيم" الذي أمرنا ربنا عز وجل أن نتبعه ونستعين به على التمسك به وتوسّد خطوات الذين أنعم الله عليهم. – موقف أتباع الشياطين من الذين يعرفون الله حق المعرفة ولكنهم يخالفون عن سبيله، وهؤلاء هم المغضوب عليهم، لأنهم هُدوا إلى صراط مستقيم وعلموا أنه الصراط المستقيم، ولكنهم حادوا عنه وتركوه على علم بما يفعلون حسدا من عند أنفسهم، فاستحقوا بذلك غضب الله عليهم، وهؤلاء هم عامة أهل الكتاب من اليهود الذين يعرفون الرسول كما يعرف الواحد منا أبناءه لقوله تعالى : "الَّذِينَ آتَينَاهُم الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ أَبنَاءَهُم وَإِنَّ فَرِيقاً مِنهُم لَيَكتُمُونَ الحَقَّ وَهُم يَعلَمُونَ" البقرة: 146 ، فقد عرفوا المنهج وعرفوا صاحب المنهج ولكنهم اختاروا غير سبيل المؤمنين، فغضب الله عليهم لقوله تعالى : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم" المجادلة : 14، ولكن القرآن لم يعمم حكمه فيهم جميعا، فهناك فريق منهم عرفوا الحق فاستجابوا له وآمنوا وحسن إسلامهم كحال جدهم عبد الله بن سلام (رضي الله عنه). يتبع..