رئيس الجمهورية يؤكد أن الجزائر تواصل مسيرتها بثبات نحو أفاق واعدة    المجلس الشعبي الوطني عضو ملاحظ دائم لدى برلمان عموم أمريكا اللاتينية والكاريبي "البرلاتينو"    المنافسات الافريقية للأندية (عملية القرعة): الاندية الجزائرية تتعرف على منافسيها في مرحلة المجموعات غدا الاثنين    رئيس الجمهورية : سيتم إرساء حوار وطني جاد لتحصين الجزائر    هادف : اللقاء الدوري لرئيس الجمهورية مع الصحافة حمل رؤية ومشروع مجتمعي للوصول إلى مصاف الدول الناشئة في غضون سنة 2030    أوبك: توقعات بزيادة الطلب العالمي على الطاقة ب 24 بالمائة بحلول 2050    الشروع في مراجعة اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوربي السنة القادمة    انضمام الكونفدرالية الوطنية لأرباب العمل الجزائريين لمجلس التجديد الاقتصادي الجزائري    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي: فيلم "ميسي بغداد" يفتتح المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة    تونس: انطلاق عملية التصويت للانتخابات الرئاسية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 41 ألفا و870 شهيدا    رئيس الجمهورية يؤكد أن الجزائر تواصل مسيرتها بثبات نحو آفاق واعدة    المطالبة بمراجعة اتفاق 1968 مجرد شعار سياسي لأقلية متطرفة بفرنسا    تنظيم مسابقة وطنية لأحسن مرافعة في الدفع بعدم الدستورية    مراد يتحادث مع المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة    الكشف عن قميص "الخضر" الجديد    محلات الأكل وراء معظم حالات التسمم    صدور مرسوم المجلس الأعلى لآداب وأخلاقيات مهنة الصحفي    انطلاق الطبعة 2 لحملة التنظيف الكبرى للجزائر العاصمة    المعارض ستسمح لنا بإبراز قدراتنا الإنتاجية وفتح آفاق للتصدير    عدم شرعية الاتفاقيات التجارية المبرمة مع المغرب.. الجزائر ترحب بقرارات محكمة العدل الأوروبية    ماكرون يدعو إلى الكف عن تسليم الأسلحة لإسرائيل..استهداف مدينة صفد ومستوطنة دان بصواريخ حزب الله    رئيس الجمهورية: الحوار الوطني سيكون نهاية 2025 وبداية 2026    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي: فيلم "ميسي بغداد" يفتتح المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة    البليدة..ضرورة رفع درجة الوعي بسرطان الثدي    سوق أهراس : الشروع في إنجاز مشاريع لحماية المدن من خطر الفيضانات    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي يعود بعد 6 سنوات من الغياب.. الفيلم الروائي الجزائري "عين لحجر" يفتتح الطبعة ال12    الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية : ندوة عن السينما ودورها في التعريف بالثورة التحريرية    اثر التعادل الأخير أمام أولمبي الشلف.. إدارة مولودية وهران تفسخ عقد المدرب بوزيدي بالتراضي    بيتكوفيتش يعلن القائمة النهائية المعنية بمواجهتي توغو : استدعاء إبراهيم مازا لأول مرة ..عودة بوعناني وغياب بلايلي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف، مولودية قسنطينة ونجم التلاغمة في المطاردة    تيميمون: التأكيد على أهمية التعريف بإسهامات علماء الجزائر على المستوى العالمي    بداري يعاين بالمدية أول كاشف لحرائق الغابات عن بعد    حوادث المرور: وفاة 4 أشخاص وإصابة 414 آخرين بجروح خلال ال48 ساعة الأخيرة    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 41825 شهيدا    بلمهدي يشرف على إطلاق بوابة الخدمات الإلكترونية    البنك الدولي يشيد بالتحسّن الكبير    يوم إعلامي لمرافقة المرأة الماكثة في البيت    لبنان تحت قصف العُدوان    إحداث جائزة الرئيس للباحث المُبتكر    أسماء بنت يزيد.. الصحابية المجاهدة    دفتيريا وملاريا سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل القاطنين    سايحي: الشروع قريبا في تجهيز مستشفى 60 سرير بولاية إن قزام    الجزائر حاضرة في مؤتمر عمان    بوغالي يشارك في تنصيب رئيسة المكسيك    استئناف نشاط محطة الحامة    افتتاح الطبعة ال12 لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف, مولودية قسنطينة و نجم التلاغمة في المطاردة    صحة: تزويد المستشفيات بمخزون كبير من أدوية الملاريا تحسبا لأي طارئ    رابطة أبطال إفريقيا (مرحلة المجموعات-القرعة): مولودية الجزائر في المستوى الرابع و شباب بلوزداد في الثاني    سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل قاطني المناطق التي شهدت حالات دفتيريا وملاريا بالجنوب    محارم المرأة بالعدّ والتحديد    حالات دفتيريا وملاريا ببعض ولايات الجنوب: الفرق الطبية للحماية المدنية تواصل عملية التلقيح    توافد جمهور شبابي متعطش لمشاهدة نجوم المهرجان    هذا جديد سلطة حماية المعطيات    خطيب المسجد النبوي: احفظوا ألسنتكم وأحسنوا الرفق    حق الله على العباد، وحق العباد على الله    عقوبة انتشار المعاصي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرب يعانون استعصاءات فكرية مزمنة
نشر في الحوار يوم 17 - 10 - 2017


بقلم: حسن العاصي
إن أية نظرة موضوعية للواقع العربي الراهن تؤكد بما لايدع مجالاً للشك أن الأمة العربية الواحدة ذات الثقافة واللغة والهوية والجغرافيا الواحدة وذات المصير المشترك، تتصارع الآن في داخلها قوى وجماعات وكيانات، وتتمزق وحدة هذه الأمة على المستوى القومي وعلى الصعيد الوطني، ويتم تهجير ملايين من المواطنين ومنهم الكثير من الكفاءات والعقول الخبيرة، وتتعمق في المجتمع الواحد الانقسامات الإثنية والطائفية، أو حتى المناطقية في بعض الدول.
إن واقع الحال العربي يشير إلى أن هذه الأمة تتنازع فيها هويات جديدة على حساب الهوية العربية المشتركة، بعضها هويات إقليمية أو طائفية أو دينية أو عرقية، ويبدو أن الهدف هو تجريد هذه الأمة من هويتها وشخصيتها العربية والإسلامية.
في ظل هذا الحال من التفتيت والتقسيم التي تعاني منه المنطقة العربية، والتي لايبشر بالخير أبداً، ويشير إلى أن المنطقة مقبلة على صراعات أكثر دموية، نقول إنه في ظل هذا الوضع بدأت تتعالى أصوات بعض المفكرين بضرورة العودة إلى دروس وعبر الماضي لنستلهم منها مايعيننا على مواجهة معضلات الحاضر، ذلك الماضي الذي كان فيه العرب والمسلمون أصحاب مكانة ونفوذ، وأصحاب فضل في تطور ونشر المعارف.
ولكن ما الذي يجعل من بعض المفكرين العرب أسرى الماضي بكل مافيه، وهم الذين يدعون إلى دراسة الماضي ومحاكاته، والتواصل الواعي مع أفكار وقيم الماضي، والتمسك بالفلسفة الاجتماعية السياسية التي شكّلت دعائم هذا الماضي الجميل.
ويرى هؤلاء أنه حين تتعرض الأمة إلى تقويض هذه الدعائم -كما يحصل الآن- فإن المهمة الأولى للمجتمع هي العمل على إعادة إحياء الماضي وإعادة الإعتبار إليه ليس بوصفه تراثاً ساكناً، بل باعتباره أداة عمل عصرية ورافعة حضارية لإعادة تشكيل الحاضر، بينما يرى آخرون أن أصحاب هذا الفكر الماضوي يبالغون كثيراً في إظهار بطولات العرب وإنجازاتهم في الأزمان الغابرة، وأن الماضي الذي يراد إحياؤه ليس إلا تاريخ يقوم على التضخيم والاختلاق، وهم يرون أن العودة إلى الماضي هو شبيه بالدعوة إلى الخروج من التاريخ، ورفض الواقع ومحاولة الهروب إلى الأمام، وهو بمثابة إدارة الظهر عن الواقع بكل تحدياته، والسعي إلى الخلاص عبر العودة إلى الماضي لعجز هذه القوى والفكر الذي يتمثلونه في التصدي للمهام التي تولدت من الحياة المعاصرة، وعدم مقدرتهم على الإجابة عن الأسئلة الراهنة التي تطرحها مفاعيل الحاضر بكافة تعقيداته وتشابكاته.
إننا نؤكد إن النظر إلى الماضي، يجب أن يتم برؤية موضوعية شاملة، ذات مصداقية تتكئ على الحقائق، ذلك لأن دراسة الماضي دراسة مبنية على أسس علمية هو ضرورة أخلاقية وحضارية ومعرفية لتسليط الضوء على الهوية الوطنية والقومية، واستخدام هذا المنهج في قراءة الماضي يجعلنا لا نسقط في هوة انتقاء مايحلو لنا من التاريخ، وإهمال الصفحات الأخرى التي لا تنسجم مع أمجادنا.
لكن قبل الإستطراد في مناقشة الموضوع، دعونا نلقي نظرة تاريخية سريعة على هذا الماضي لجعله في خلفية المشهد أثناء تسليط الضوء على أهمية وقف تفتيت البلاد العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية.
لاشك في أن المنطقة العربية قد عانت لفترات طويلة وعصيبة من نير الاحتلال الأجنبي قبل ظهور الإسلام، فقد عانى سكان هذه المنطقة من ويلات الإمبراطورية الفارسية الوثنية، والإمبراطورية الرومانية المسيحية الغربية، ولم تستثن هذه السياسة التي اعتمدت البطش والظلم من قبل هذه الإمبراطوريات جميع سكان المنطقة، لم تستثن المسيحين العرب الذين ذاقوا الأمرين من سياسة التنكيل والتعذيب، لذلك لم يكن غريباً على سبيل المثال أن تنضم القبائل المسيحية العربية إلى جيوش الفتح الإسلامي ضد الفرس والرومان، وكذلك في فتح إسبانيا وتأسيس دولة الأندلس.
وبهذه الفتوحات الإسلامية، تحرر العرب من قبضة المحتل، وتم طرد الغزاة من الأرض العربية، وكذلك تم توحيد السلطة السياسية، وأيضاً توحيد الأمة التي تقيم فوق هذه البقعة الجغرافية، وتم صهر جميع الإثنيات والأقليات في الحضارة العربية.
فخلال مراحل التطور التاريخي للدولة الإسلامية، تبلورت هذه الكتلة البشرية المعروفة باسم الأمة العربية، وتجانست هذه المجموعة قومياً وتآلفت وأصبح لها تاريخ واحد مشترك ولغة واحدة، الأمر الذي أثرى تراثها الثقافي والحضاري المتنوع، وساهم في إنتاج ما يسمى تكوين الشخصية العربية. ولأن هذه المجموعة تسكن في بقعة جغرافية واحدة واسعة وممتدة، كان لابد من ظهور مصالح اقتصادية مشتركة، وفرض ضرورة وجود أمن قومي عربي واحد، وهذه من الأسباب الرئيسية التي أنجبت فيما بعد الشعور بالعروبة والإنتماء لهذه الأمة، وأظهرت النزوع نحو الوحدة عند غالبية سكان المنطقة.
ولقد ساهمت الحضارة العربية والإسلامية مساهمة فعالة في إغناء الحضارة الإنسانية وتطورها في مجالات العلوم والفنون والآداب والدراسات المختلفة. وفي الوقت الذي وصلت فيه الأندلس في عهد حكم المسلمين إلى ذروة مجدها وعظمتها، وأصبحت قبلة للقاصدين لطلب العلم والمعرفة، كانت أوروبا غارقة في جهل مدقع وتخلف حضاري.
ووصل العطاء الفكري للعرب والمسلمين إلى ذروته في القرنين الثامن والتاسع الهجري، وبرز الكثير من العلماء العرب في الطب والجغرافيا والفكر والرياضيات والفلسفة وغيرها، الذين ما زالت مؤلفاتهم تدرس في جامعات العالم. ما الذي يجعل من بعض المفكرين العرب أسرى الماضي بكل ما فيه، وهم الذين يدعون إلى دراسة الماضي ومحاكاته، والتواصل الواعي مع أفكار وقيم الماضي، والتمسك بالفلسفة الاجتماعية السياسية التي شكلت دعائم هذا الماضي الجميل.
لكن هل نحن حقاً نريد إحياء الماضي؟، الجواب بالطبع لا نريد، فإن الماضي عبارة عن جملة من العناصر تدخل وتساهم مساهمة مباشرة في تكويننا الفكري والثقافي وفي العناصر التي تحدد شخصيتنا، الماضي شيء يدخل في الشعور واللاشعور لكل فرد، كخبرة متوارثة وليس كواقع جامد يمكن استعادته بمجرد استدعائه، إن الماضي هو تاريخ الوجود البشري كصيرورة تاريخية جماعية ممتدة في الزمان.
وأهمية "قراءة الماضي في هذا السياق أنها تساعدنا على وضع الحاضر في مكانه الصحيح، ذلك أن التاريخ يهتم بالأسباب، ومن ثم فإنه يوسع من مدى إدراكنا للعملية التاريخية، وإذ قرأناه بوعي، نظرنا إلى المشكلات التي تعكر صفو الحاضر برؤية أكثر تنظيما، لأن معرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي- من خلال قراءة التاريخ- قد تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر، وليس معنى هذا أن الماضي يمكن أن يجعلنا نتنبأ بالمستقبل بشكل ساذج وبسيط مثل قراءة الطالع، وبالتالي لا يمكن أن يرشد الناس عن الكيفية التي يجب أن يتصرفوا بها في حاضرهم، ولكنه قد يساعدهم على أن يتجنبوا تكرار أخطائهم. ويمكن لمجتمع اليوم أن يأخذ من ماضيه شيئاً ربما يفيد في توجيهه وإرشاده، لأن التاريخ يحمل في داخله نوعاً من الإنذار المبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته، وبالتالي فإن أية عملية استحضار الماضي بشكل ميكانيكي هو أشبه بوضع العربة أمام الحضان، ويصبح قرار إرادوي بالثبات وعدم رؤية وقائع الحياة المعاصرة المتجددة والمتطورة بشكل متسارع، بحيث تكاد تفلت من بين أيدينا ولانستطيع الإمساك بعناصرها وحلقاتها المهمة، لهذه الأسباب فإن اتصالنا وتواصلنا مع تاريخنا يجب بالضرورة أن يتم من خلال هذه الوقائع للحياة المعاصرة، لا أن يتم النظر إلى حاضرنا بأدوات ومفاهيم الماضي.
إن مقدرة الشعوب على التواصل والإتصال مع الحداثة ومع منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة وكافة مفردات الديمقراطية والتطور العلمي وتوفير مناخ الإبداع وعدم المس بحقوق الإنسان الأساسية، هي التي تجعل من التاريخ في تواصل وتماس مع حياتنا الراهنة، ونحن كشعوب عربية مازلنا نكافح لبناء وطن عربي موحد سليم ومعافى وقادر على المساهمة بفعالية في صنع الحضارة الإنسانية الحديثة دون تكييفات خاصة لمذهب أو لطائفة أو لعرق فيه الأفضلية على الآخرين، وذلك من خلال التواصل والتعاون مع كافة التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية العالمية، مع أهمية التأكيد على أهمية الهوية القومية العربية الواحدة الموحدة في مواجهة الأطماع التي تحيط بجسد الأمة من كل صوب، ولمنع أية اختراقات تؤدي إلى تفكيك هذه الهوية وتجزئة المنطقة تمهيداً لتدمير شخصيتنا الاعتبارية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يدخل العرب إلى الألفية الثالثة بأسئلة كبيرة ومهمة، أسئلة فلسفية وجودية علمية وتاريخية ومصيرية مازالت تثقل كاهلنا من القرن الماضي، وهي أسئلة تطرح في الحقيقة في جو من التشاؤم والنظرة السوداوية. قد تمت خلال الربع الأخير من القرن الماضي عدة مراجعات على المستويين الفلسفي والعلمي لكثير من النظريات التي كانت تساعد الإنسان على فهم أفضل للعالم وكافة الظواهر والعناصر التي تساهم في صيرورة الحضارة المعاصرة، والكثير من هذه المراجعات توصلت إلى استخلاصات مهمة اتسمت بنظرة سوداوية تشير إلى أنه لأول مرة في التاريخ تقف البشرية على شفا حفرة من التدمير الذاتي، وأن استعصاءات هذه الحضارة قد تقودها إلى حتفها.
ولكن حين لا يستطيع واقعنا الراهن أن يقدم أجوبة عن الأسئلة المهمة التي يطرحها الفكر الإنساني، ويكون هذا الواقع عاجزاً عن فهم الكثير من الظواهر، فإننا -لاشك- نكون أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما أن الأسئلة التي على هذا الواقع هي في الحقيقة أسئلة زائفة غير حقيقية وغير صائبة وغير منطقية، وبالتالي فإن الأسئلة الزائفة غير حقيقية لا جواب واقعي عنها، أو أن هذا الواقع الذي نعيشه هو واقع راكد وعناصره ثابتة راسخة إلى الحد الذي تحجر فيه هذا الواقع وأصبح لايستطيع الإجابة عن أسئلتنا.
في الحقيقة إن الفكر العربي في مأزق معقد مركب لم يستطع تجاوزه منذ أكثر من قرن ونيف من الزمان، إذ مازالت الأسئلة التي طرحها هذا الفكر هي نفسها، دون أن يستطيع تقديم إجابات علمية عليها، ومازال قادة الفكر العربي وسدنته تشكيل الراي العام مشحونين بالأسئلة دون توفر إمكانية تقديم الأجوبة الشافية، الأمر الذي يساهم في تكريس حالة الضياع والتوهان للمواطن العربي، وهو وضع شبيه بخروج المريض من عيادة الطبيب بتشخيص دون علاج.
إن أسئلة التحرر من الاستعمار، وموضوع التبعية والتخلف، النهضة والتقدم التاريخي، التجديد في الفكر وقضية الإبداع والسلفية، سؤال الحداثة وقيمها مثل الحرية والتحديث والديمقراطية والتمدن ومابعد الحداثة.. إلخ، أسئلة العروبة والإسلام والقومية، العنف والحوار والتسامح، سؤال الأنا والآخر، أسئلة المستقبل وغيرها الكثير من الأسئلة الأساسية الوجودية، إن الكثير من هذه الأسئلة قد طرحها النهضويون العرب، ونلاحظ أنها مازالت نفسها أسئلة المعاصرين من المفكرين العرب.
فهل هي أسئلة يقدمها الوعي العربي من خلال رؤيته للعالم وللماضي بصورة علمية وكما يجب، أم أن هذه الأسئلة هي ناتجة عن وعي إرادوي للعالم؟. في الواقع إن القول بأن هذا الواقع راكد وراسخ بثبات ولم يتغير منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن، هو قول غير علمي، وبالتالي هو يتناقض مع سيرورة حركة التاريخ الفعلية التي تعني أنه لا ركود ولا ثبات في حركة الكون المتغيرة المتجددة باستمرار، لكن للأسف لم يكن في حركة التاريخ ولا في تجدده وتغيره إجابة واقعية علمية عن أسئلة المفكرين العرب في العصر الحديث، وبالتالي فإن أياً من أهداف عصر النهضة العربية لم يتحقق.
حسناً، ألايبدو الآن منطقياً إذن التحرر من أسئلة الماضي، ومن كل تلك الأسئلة التي طرحها النهضويون العرب قديماً وحديثاً، ونقدم بدلاً عنها أسئلتنا المعاصرة، أسئلة مرتبطة ارتباطا وثيقا بأهدافنا الواقعية، فطالما أن الأسئلة القديمة لم يتم الإجابة عنها وأهدافها لم تتحقق وقد مضى عليها دهراً، خاصة في ظل هذه المتغيرات الكبيرة والجوهرية المهمة التي تشهدها المنطقة العربية من تحولات في هذه المجتمعات تحولت في بعضها إلى صراع مسلح وحروب أهلية.
من المهم أن نعلم أنه لايمكن تحقيق أهداف وإنجاز تطلعات تاريخية إن لم تكن أصلاً تحمل بين طياتها إمكانية حقيقية واقعية للتحقق، ومن البلاهة وقصر النظر الظن أنه بالإمكان لوي عنق التاريخ لإجباره على أن يكون كما نرغب ونتمنى من دون أن يكون التاريخ في تلك اللحظة التاريخية في حالة حمل حقيقي وليس حملاً كاذباً.
في ضوء ماتقدم نصل إلى استخلاص في غاية الأهمية، وهو أن أية إمكانية حقيقية وواقعية للتغيير في حركة التاريخ، سوف تظل ساكنة إذا لم تجد الإرادة والرافعة والأدوات واللحظة التاريخية المناسبة لنقلها من حالة السكون إلى إمكانية واقعية. إن هذا الوعي والإدراك لمنهج تحليل العلاقات بين أسئلة الفكر العربي وبين الواقع الذي نعيشه، يجعلنا ندرك الأسباب الموضوعية العلمية وراء إخفاق الأفكار التي لم تتحقق، وماهي الأفكار التي تحمل قابلية التحقق.
وبذلك نكون أمام احتمالين، إما أن أفكارنا وأهدافنا السابقة كانت مجرد إمكانية تاريخية واقعية لكنها لم تجد الإرادة والعزيمة لتحقيقها، أو أننا كنا نمتلك الإرادة الواعية ولدينا أهداف لكن من غير إمكانيات لتحقيقها.
يدعو بعض المفكرين العرب إلى الحداثة وضرورة دخول العرب إلى عصر العولمة على سبيل المقاربة، يكون هذا البعض قد طرق الأبواب الخاطئة. إن الأبواب التي تحتاج طرقاً هي الأبواب التي تدخلنا إلى قاعة من أجل امتحان أسئلتنا التاريخية وفق منظور العصر الحديث، لمعرفة هل هي أسئلة صحيحة أم زائفة، على سبيل المثال سؤال الهوية القومية ومن نحن، وهي مسألة مطروحة بقوة من أجل نهضة عربية جديدة، وقد دخل العرب الألفية الثالثة وهم في حالة من التفكك الذي يهدد حاضر العرب ومستقبلهم، في وقت يدعو الكثيرون فيه إلى الإنخراط في النظام العالمي الجديد، من موقع المشاركة وليس التبعية، وهو ما لايستطيعه العرب قبل إنجاز وحدتهم القومية، حتى لايتم استيلابهم من قبل القوى العالمية المهيمنة على النظام العالمي الجديد، وهذا يقودنا إلى سؤال الوحدة العربية وبناء دولة عربية واحدة وقوية، انطلاقاً من وحدة اللغة والثقافة والتاريخ وإرادة العيش المشترك ومواجهة التحديات الكبرى التي تحتم وحدة العرب في مواجهة التكتلات السياسية والاقتصادية العالمية، فهل هذا السؤال الهدف حقيقي أم زائف؟، نحن نعتقد أنه سؤال حقيقي لأنه إمكانية واقعية، فقط تحتاج إلى إرادة سياسية لتحقيقها.
لنعرج على أسئلة الحرية والديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني، وهي الأسئلة القديمة الجديدة، فما الذي يجعلها أسئلة راهنة؟، بالطبع إنه غياب الحريات العامة وعدم وجود مواطنة حقيقية وغياب أو ضعف منظمات المجتمع المدني، أما لماذا غابت الحرية والديمقراطية، فإن لذلك أسباب متعددة أهمها سيادة سلطة العائلة والقبيلة حتى في مؤسسات الدولة، وسيطرة الحزب الواحد وغياب تداول السلطة، وكذلك غياب ثقافة الديمقراطية عن خطاب الفكر القومي العربي بحجة أولوية الكفاح من أجل الإستقلال والوحدة، إذن غياب الحرية والديمقراطية هو غياب مزدوج سياسي في أنظمة الحكم وإيديولوجي لغيابه فكرياً كما هو واضح عن شعارات القومية العربية، التي دعمت في بعض المراحل أنظمة حكم استبدادية باسم الإشتراكية.
إن أحد أهم الأسئلة هو سؤال الدين والسياسة والعلاقة بينهما، ويكتسب هذا السؤال صفة استثنائية في ظل الظروف الراهنة التي تعصف بالأمة العربية، وكذلك عودة الفكر الديني بكافة أشكاله إلى الساحة السياسية، في ضوء تصاعد لافت للقوى والأحزاب والجماعات الإسلامية خلال السنوات الأخيرة. والموقف من العلاقة بين الدين والسياسة كان العامل الفيصل في تصنيف التيارات الفكرية، إما بتغليب أحد الطرفين على الآخر، أو بإعادة النظر في السؤال، وهي بالمناسبة علاقة إشكالية تنتمي لأكثر من حقل معرفي ديني وسياسي واجتماعي وحقوقي، ومن الصعوبة بمكان مقاربتها وفق رؤية واحدة، وكما يقول ابن رشد فإن الحكمة أخت الشريعة، ولايمكن لحق أن يضاد حقاً آخر، لكن إشكالية هذه العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر العربي لم تستطع أن تتجاوز البنية الفكرية للعقل العربي الإسلامي، وبالتالي حالت دون نجاح المشروع النهضوي العربي.
أيضاً من الأسئلة التي مازالت مطروحة بقوة في الفكر العربي سؤال نحن والآخر، وكذلك حوار الحضارات، كمفهوم برز بقوة في العقد الأخير من القرن الماضي، نتيجة انتهاء الصراع الإيديولوجي العالمي مع سقوط المعسكر الشرقي، والعامل الثاني هو صعود دور الأديان في الحياة السياسية العامة، وكذلك تطور وسائل الاتصال إو ما عرف بالثورة المعلوماتية، ولكن بأي منظور نتحاور مع الآخر، أبمنظور ليبرالي؟، أم ماركسي؟، أم إسلامي؟، أم يتوجب توحيد الرؤية؟.
ما لا شك فيه، أن تعدد المرجعيات داخل الدائرة العربية والإسلامية يؤثر في مناقشة الكثير من القضايا موضوع الحوار، لاسيما المرتبط منها بالهوية، الأمر الذي يجعل الباحثين غير المسلمين يلقون صعوبات في تتبع هذه الاختلافات، لاسيما إذا كانت جوهرية وفي المنابر الدولية، فالشعور السائد لدى معظم الغربيين هو تعدد الإسلامات.
وعلى الرغم من اتفاق الخطاب العربي والإسلامي حول رفض الهيمنة الغربية على العالم، ورفض تعالي الغرب ومركزيته، وكذا رفض تشويه الإسلام ونعت الأنا -العرب والمسلمين- بشتى النعوت خاصة بالتطرف والإرهاب، فإن هذا الخطاب لا يزال مضطرباً في فهم الآخر(الغرب)، وفي صياغة الأسلوب الأنجع في التعامل معه، وبالتالي التواصل معه.
في هذه اللحظات التاريخية من الواقع العربي الراهن، نجد أنفسنا أمام مشهد سياسي فكري مضطرب إلى حد كبير ويحتاج إلى قدرات تحليلية مركبة ومعقدة لفك طلاسمه، لأن تحليل هذا الواقع قد خضع لاعتبارات متباينة حد التناقض في أسبابه ودوافعه، وذلك يعود إلى غياب مزمن للعقل التحليلي، واستلاب المواطن العربي، وتخلف مراكز إنتاج المعرفة في العالم العربي إن وجدت، وسياسات الاستبداد والتجهيل التي مورست بحق الإنسان عبر عقود طويلة، كل هذا ساهم في إنتاج هذه العشوائيات في الفكر العربي، وجعلت من هذا المشهد الحالي مبهم ويستعصي على تحليل المواطن العربي . هذه الحالة لا يمكننا خلعها والتخلص منها إلا إذا أعدنا قراءة الواقع والتاريخ بمنظار آخر غير الذي استخدمناه على مدى العقود الماضية وأحسنّا ترتيب أوراقنا وأعدنا اجتراح إستراتيجيتنا بشكل يتوافق مع الشيء الذي يعيد لنا الثقة في المكان الذي يجب أن نحتله بين دول المعمورة.
الأسئلة التي تشكلت على مدار العقود الماضية هي نفسها التي تتردد اليوم، وهي نفسها الأسئلة التي تتعرض للواقع العربي، لماذا تردى الحال العربي ووصل الى هذا المستوى من التدني والاختلاف والتجزئة؟، لماذا لم تقم جبهة عربية واحدة إزاء ذلك الكم الهائل من التحديات التي أصبحت تهدد الهوية العربية بل الوجود العربي من أساسه، ولا نبالغ إن قلنا إن الإنسان العربي يتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى للتجريف والتشريد بهدف إنهاء وجوده كإنسان.
أخيراً، إن معرفة الأهداف الكبرى والإيمان بها من غير معرفة منهجية وأدوات تحقيق هذه الأهداف، هو استمرار لدوران الأمة في الحلقة المفرغة، ومعالجة عجز الفكر العربي عن تقديم أجوبة على أسئلة الواقع الراهن المتغير لا تكون بالعودة إلى تمجيد الماضي واستخدام أدواته الفكرية، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى سقوط الفكر، وهو سقوط سوف يتسبب في إعادة إنتاج الشقاء الفكري مرة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.