لكن ما جعله سعيداً أكثر هو ردة الفعل المباشرة والتأييد المطلق الذي قام به الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، فعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية فرضت منع التجول في كافة المدن الفلسطينية إثر إعلان الاستقلال في الجزائر، وهددت بإجراءات حاسمة إلاّ أن الشعب الفلسطيني، بدافع البهجة والفرح خرج عن بكرة أبيه مؤيداً قرارات الجزائر بالاستقلال، ما زاد في حدّة التوتر والمواجهات الإسرائيلية المضادة للشعب الفلسطيني، ما جعل عرفات بانفعال وتأثر يصرّح عن شباب الانتفاضة: "هؤلاء العظام، جنرالات الحجارة، فبحماسهم وتضحيتهم خلقوا ظروف نجاحنا". وفور إعلان دورة الجزائر وإعلان الاستقلال، اعترفت 67 دولة فوراً بالدولة الفلسطينية الجديدة. ولم تمض بضعة أشهر حتى وصلت 90 دولة، في مقدمتها الجزائر ودول المغرب العربي ودعم مصر ودول الخليج وشبه الجزيرة العربية، ولقيت الدعم الكامل من قبل الدول الاشتراكية والدول الإفريقية ومن دول عدم الانحياز، كما تلقى عرفات رسائل شخصية من العديد من رؤساء الدول الأوروبية ومسؤوليها الفاعلين. بعد إعلان الاستقلال، أصبح عرفات ممسكاً الأوراق السياسية والدبلوماسية كافة، مؤيداً بدعم شعبي فلسطيني تتزايد انتفاضته، وتأييد دولي يتزايد تفاعلاً، لكن هذه الفرصة كادت أن تفلت من يده عندما حدثت أزمة الخليج، واحتلال العراق للكويت وما رافقها من تطورات انشغل بها العالم على حساب قضية الشرق الأوسط وحل الصراع العربي الصهيوني، خاصة أن الحليف الأميركي لاسرائيل كان مشغولاً بها. إلاّ أن الرئيس بوش وبدافع من انتصاراته في حرب الخليج أراد ان يثبت أنه انتصر أيضاً في المنطقة فصرّح أمام الكونغرس في 6 آذار إذ قال: "يجب علينا أن نعمل كل ما في وسعنا لتجاوز الهاوية السحيقة التي تفصل بين الدولة العبرية والبلدان العربية وبين الإسرائيليين والفلسطينيين"، هذا الموقف الأميركي الواضح الذي يجمع بين أمن إسرائيل، ويليه الحقوق الشرعية للفلسطينيين، والذي نظر إليه من خلاله بروز حل الدولتين الذي تمسّك به عرفات وعمل باتجاهه. وبنفس الجرأة وقف عرفات مرّة أخرى في قاعة الجزائر، وفي حضور جزائري رفيع المستوى من رئيس الوزراء ورئيس المجلس الوطني ووزير الخارجية، وقف عرفات أمام المجلس الوطني في دورته العشرين، ليقول:"انتبهوا إلى الشرق الأوسط، واعملوا كل ما في وسعكم من أجل تسوية النزاع العربي – الاسرائيلي وجوهرة قضية فلسطين على أساس العدل والشرعية الدولية" وأضاف: "لقد كنا، نحن الفلسطينيون، أول من عمل من أجل السلام بعقل مفتوح". من هنا، بدأت مسيرة العملية للسلام، في اندفاعة فلسطينية يقودها عرفات بشجاعة وجرأة، وبتعقيدات اسرائيلية ومناورات أميركية، بهدف تحقيق الشعار القائل "شعبان ودولتان". وفي 20 تشرين الأول (أكتوبر)1991م، انعقد مؤتمر مدريد، وقد افتتح في قصر الملك خوان كارلوس برعاية جورج بوش وميخائيل غورباتشوف، وقد عقد على أساس القرارات 242 و 338. وعلى الرغم من أن (م.ت.ف)، قد استبعدت من المشاركة فيه، إلا أنها المرة الأولى منذ عام 1948م، التي يكون فيها الفلسطينيون شركاء على قدم المساواة مع إسرائيل، وقد علّق عرفات على ذلك قائلاً: "ها هو أحد أحلامنا يتحقق، وقد ساهمت الانتفاضة في تحقيقه". تلا ذلك سلسلة لقاءات أوسلو برعاية نرويجية في اول لقاء بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وفي 20 آب 1993م، أبرمت اتفاقية اوسلو، وعلى الفور صرح عرفات في مقرّه في تونس: "أشعر أن الدولة الفلسطينية ليست بعيدة، يجب أن ننظر إلى المستقبل بعين الأمل". وفي 13 أيلول (أغسطس) وتحت رعاية بيل كلينتون الرئيس الأميركي وقعت م.ت.ف وإسرائيل على إعلان مبادئ "اتفاق أوسلو" وبموجبه أطلقت إسرائيل في 10 أيار (مايو) الإفراج عن خمسة آلاف سجين ومعتقل فلسطيني، وجلت عن منطقة غزة وأريحا على التوالي وحلّت فيهما قوات تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أعقبها وصول عرفات إلى مكتبه في غزة في 12 تموز (يوليو) وباشر الحكم كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية وسط احتفالات شعبية عارمة حملت الجماهير سيارته عدة مرات، كان الشعب مصاباً بحالة من البهجة والفرح، وقد شعر لأول مرة بأنه سائر نحو الحرية والاستقلال. وفي 28 أيلول (سبتمبر) 1995م، وقع عرفات ورابين في واشنطن اتفاق المرحلة الثانية من الحكم الذاتي، والتي سيمت باسم "الاتفاقية الفلسطينية – الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة" وعرفت باسم "اتفاقية أوسلو2" بحضور بيل كلينتون والملك حسين. وبدأت عملية انسحاب القوات الإسرائيلية ليحل محلها عناصر من القوات الفلسطينية. في كل هذه الإجراءات كان اليمين الإسرائيلي يخلق المتاعب ويثير العقبات في الجانب الإسرائيلي بدأ بافتعال الأحداث المؤلمة للجانب الفلسطيني مثل مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، وانتهاء بقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين نتيجة مواقفه مع الفلسطينيين، ونتيجة إدراكه بتقديم المزيد من التنازلات الإسرائيلية لتحقيق السلام، ونتيجة لذلك أصبح هذا اليمين هو الذي يقود المجتمع الإسرائيلي، ويقوم بإجراءاته ضد الشعب الفلسطيني لتدمير مسيرة السلام وتمكين القوى الإسلامية الرافضة للظهور وبقوة في الجانب الفلسطيني. ومرّة أخرى تعود موجة العنف إلى داخل فلسطين بعد نجاح هذا اليمين في قيادة المجتمع الإسرائيلي وقيادة الاجهزة القمعية الإسرائيلية، مترافقه عما يدور في العالم من أحداث دامية جعل دولها مشغولة، بها. ونتيجة عدم خضوع عرفات للإملاءات السياسية التنازلية، حوصر في مقر إقامته في رام الله دام فترة طويلة، والدبابات والجنود تحيط به من كل جانب… لكنه كان يصر ويردد: أن شبلاً أو زهرة من أبناء فلسطين سيرفع الراية في كنائس القدس ومساجدها معلناً عن قيام الدولة الفلسطينية"، ما دفعه أن يكون شهيداً في سبيل هذا الهدف. ومثلما كان حدس الزعامة ورؤية منهجها الواقعي المؤدي الى السلام العادل تواصل قيادة منظمة التحرير بقيادة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) اتباع نفس طريق عرفات ورؤيته، محققة الإنجاز السياسي تلو الإنجاز في الهجوم السياسي والدبلوماسي ضد إجراءات اسرائيل القمعية، وتبني مؤسسات وقواعد مجتمع قادر على الصمود والتصدي لكل الإجراءات الاسرائيلية. فبناء المجتمعات يحتاج إلى نفس طويل، ورؤية المستقبل بعيون الأمل.
______________________________ التصفية عليان الهندي صرح الشهيد ياسر عرفات أنه تعرض لعشرات محاولات الاغتيال المحلية والدولية والعربية والإسرائيلية. ونظرا لعدم تحقق أي منها، سأركز على المحاولات الإسرائيلية السابقة باختصار، نظرا لأن إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي ظل يرى بياسر عرفات خطرا عليها، وأصدرت بحقه العديد من القرارات الداعية لطرده أو قتله أو استبداله، كان من أهمها قرار المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر باعتبار عرفات مسئول عن سلسلة العمليات التي شنت ضد إسرائيليين، ونتيجة ذلك أصبح "غير ذي صلة" ولن تجري معه أية اتصالات. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده الوزير الإسرائيلي مئير شطريت قال إن عرفات لم يعد بالنسبة لنا عنوان، وسنعمل كل شيء من أجل الدفاع عن أمننا[1]. وفي نفس السياق، صرح الجنرال عاموس ملكا رئيس جهاز الاستخبارات أن المسألة ليست ياسر عرفات "ذي صلة أم لا، المشكلة هي أنه لا يوجد احتمال بالتوصل لسلام مع الجيل الحالي من الفلسطينيين". وأضاف أن "عرفات هو جزء من المشكلة وليس جزء من الحل". وفي السياق المذكور، وضع أول مخطط إسرائيلي لاغتيال ياسر عرفات عام 1964 حين وصلت معلومات لجهاز الموساد تفيد بأن حركة "فتح" تنوي عقد اجتماع لها في مدينة درامشتات في ألمانيا الغربية، وترأس الوحدة الخاصة بالاغتيالات "قيساريا" رافي إيتان[2]. وكانت عملية فردان التي قتلت فيها القوات الإسرائيلية القادة الفلسطينيين الثلاثة الشهداء أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، وقصفت المنزل الذي يقيم فيه ياسر عرفات، وبالنظر لعدم تيقنهم من وجوده فيه. حيث تواجد آنذاك في موقع سكن عرفات الحراس وبعض السجناء من بين الفدائيين الذين أطلق سراحهم وشاركوا في المعركة التي أشرف عليها ياسر عرفات من سطح العمارة التي يسكن بها[3]. ووضع مخطط آخر لتفجير سيارة ياسر عرفات في دمشق، لكن اعتقال عرفات من قبل السلطات السورية أفشل العملية، ما دعا إسرائيل لوضع خطة لتجنيد سجناء مدنيين سوريين لقتله، لكن الإفراج عنه من السجون السورية أحبط المخطط الإسرائيلي مرة أخرى[4]. وتلا المحاولات الثلاث، عشرات محاولات الاغتيال التي نجحت في نهاية المطاف باغتيال الشهيد ياسر عرفات عام 2005. وتعتبر رواية الصحفي الإسرائيلي أوري دان المقرب من أريئيل شارون منذ عدة عقود، في كتابه الذي صدر عام 2006 بعنوان "في سر شارون"، هي الرواية الأكثر مصداقية، حيث ذكر دان في كتابه أن أريئيل شارون أبلغ جورج بوش الابن في الاجتماع الذي عقد بينهما في 14 نيسان عام 2004 في البيت الأبيض أنه "لا يعتبر نفسه ملتزما بالوعد الذي قطعه للرئيس الأمريكي بعدم المس الجسدي بياسر عرفات في شهر آذار عام 2001".[5] حينها رد عليه بوش يقوله: "ربما يجدر إبقاء مصير الزعيم الفلسطيني في يد الله". رد عليه شارون مسرعا: "الله يحتاج للمساعدة أحيانا". الرئيس الأمريكي ظل بلا حراك ولم يعط لشارون ضوء أخضر لتصفية ياسر عرفات، لكنه لم يطلب منه تجديد الالتزام بعدم تصفية عرفات. وخرج شارون من الاجتماع وهو راض بالنتائج التي تمخض عنها الاجتماع وأبلغ الصحافيين الإسرائيليين المرافقين له أنه يمتلك اليوم مطلق الحرية في كل ما يتعلق بمصير ياسر عرفات[6]. ويضيف دان أن أريئيل شارون أبلغه أنه ذات يوم حلم أنه عاد من جديد لتولي وحدة كوماندو مختارة، وقام بالسيطرة على المقاطعة. وبعد إبلاغه بالحلم، سأله دان لماذا لم تطرد عرفات أو تقدمه للمحاكمة، وهل له حصانة مطلقة ؟. رد عليه شارون باختصار :"اترك الأمر لي كي أرتبه بطريقتي الخاصة. ويضيف دان، فجأة قطع شارون المحادثة وهو أمر لم يكن طبيعيا في المحادثة بين الرجلين[7]. ويضيف دان أن شارون وبعد أن أخذ حريته (في أعقاب المحادثة مع الرئيس الأمريكي) بدأت صحة الرئيس الفلسطيني بالتدهور، واصفا طريقة الاغتيال بأنه خلاقة وجافة، لكن فيها كل شيء، ومن غير الممكن حدوث خطأ. وأضاف دان أن "التاريخ سيذكر وكأن شارون قام بتصفية ياسر عرفات من دون أن يقتله [المقصد هنا عدم القتل المباشر][8]. وأضاف دان أن "المرض عشعش لأشهر طويلة في جسم أبو عمار، وانتشر في خريف 2004 حاسما الأمر بالموت"[9]. وتشبه التصفية التي تعرض لها ياسر عرفات كثيرا التصفية التي تعرض لها المرحوم وديع حداد من مؤسسي الجبهة الشعبية ورئيس قسم العمليات فيها وديع، حيث تعرض لمرض غامض، وتوفي بعد عدة أشهر من دون أن يتمكن أطباء المانيا الشرقية من معرفة أسباب المرض. بالضبط كما جرى لياسر عرفات[10].