الفريق أول شنقريحة يزور حوض بناء السفن " ڨوا شيبيار ليميتد" في ثاني يوم من زيارته إلى الهند    عطاف يجري محادثات مع المبعوث الخاص للرئيس الموريتاني    تنظيم الطبعة ال 19 للصالون الوطني للتشغيل والتكوين المتواصل والمقاولاتية من 8 الى 10 فبراير بالعاصمة    "الأونروا" تحذر من مخاطر تعرض مئات آلاف الفلسطينيين في غزة للبرد القارس    الكويت تجدد موقفها الثابت الداعم للشعب الفلسطيني    رئيس جنوب افريقيا يؤكد استمرار بلاده في الوقوف مع الشعب الفلسطيني    المواطنون الراغبون في أداء مناسك العمرة مدعوون لأخذ اللقاحات الموصى بها    رئيس الجمهورية يتلقى مكالمة هاتفية من نظيره التشيكي    صيدال: الاطلاق المقبل لمشروع انتاج المادة الأولية للعلاجات المضادة للسرطان    مهرجان الصورة المؤسساتية: تتويج 14 فيلما مؤسساتيا بجائزة أفضل الإبداعات السمعية البصرية في مجال الأفلام المؤسساتية    صيدال: الاطلاق المقبل لمشروع انتاج المادة الأولية للعلاجات المضادة للسرطان    الألعاب الإفريقية المدرسية (تحضيرات) : وفد اللجنة الأولمبية يؤكد جاهزية المنشآت الرياضية بولاية سكيكدة لاحتضان جزء من المنافسات    كرة القدم/كأس الجزائر (الدور ثمن النهائي): ترجي مستغانم و وفاق سطيف أول المتأهلين للدور ربع النهائي    السيد عطاف يجري محادثات مع المبعوث الخاص للرئيس الموريتاني    الجوية الجزائرية/الديوان الوطني للحج : اتفاقية لنقل الحجاج وفقا لآليات تنظيمية ورقمية متطورة    تجارة: مراجعة شاملة للإطار التشريعي وتوسيع الاستثمار في المساحات الكبرى    التدابير الواردة في قانون المالية لسنة 2025 تهدف إلى تحسين مناخ الأعمال في الجزائر    مشروع ازدواجية الطريق الوطني رقم 27 : تسليم محور قسنطينة خلال الثلاثي الرابع من 2025    وفاة المجاهد و الخطاط عبد الحميد اسكندر عن عمر ناهز 86 عاما    حيداوي يبرز جهود الدولة في التكفل بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة    المنازل الذكية تستقطب الزوّار    إبراهيموفيتش يكشف سبب رحيل بن ناصر    مسلوق يتعهّد باحترام رزنامة المباريات    راموفيتش مدرباً لشباب بلوزداد    تعويضات للعمال المتضرّرين من التقلبات الجوية    الجيش الوطني يسترجع أسلحة وذخيرة    صوت المريض    تنفيذ تمارين افتراضية بالجلفة    بذرة خير تجمع الجزائريين    بوغالي يجدّد رفضه للائحة البرلمان الأوروبي    عطاف يُحادث فيدان    إبراز التراث الأدبي والديني للأمير عبد القادر    هذه ضوابط التفضيل بين الأبناء في العطية    شاهد حي على همجية وبربرية الاحتلال الفرنسي    ترامب يفتح جبهة صراع جديدة    مع فرضية غير واقعية    خط سكة الحديد الرابط بين العبادلة وبشار يوضع حيز الخدمة قريباً    سايحي يلتقي نقابة البيولوجيين    كرة القدم/ كأس الجزائر: تأجيل مباراة اتحاد الجزائر-نجم مقرة ليوم الاثنين 10 فبراير    مناجم: تنصيب مدير عام جديد للشركة الوطنية للأملاح    أمطار رعدية مرتقبة بعدة ولايات جنوب البلاد ابتداء من يوم الخميس    ندوة تاريخية للتأكيد على همجية وبربرية الاحتلال الفرنسي    اليمين المتطرّف الفرنسي في مرمى النّيران    "الأميار" مطالبون بتحمل مسؤولياتهم    صب منحة رمضان في حسابات مستحقيها قبل منتصف فيفري    استعادة الأراضي غير المستغلّة وتسريع استكمال المباني غير المكتملة    تأسيس جمعيات للتنشئة السياسية لفائدة الشباب    الجزائر تحتضن مؤتمر الاتحاد الإفريقي    "أباو ن الظل".. بين التمسّك والتأثّر    معرض لفناني برج بوعريريج بقصر الثقافة قريبا    ندوة وطنية عن المعالم والمآثر بجامعة وهران    رياض محرز يشدد على أهمية التأهل إلى كأس العالم    المبدعون من ذوي الاحتياجات الخاصة يعرضون أعمالهم بالجزائر العاصمة    إمام المسجد النبوي يحذّر من جعل الأولياء والصَّالحين واسطة مع اللَّه    الإذاعة الثقافية تبلغ الثلاثين    هذا موعد ترقّب هلال رمضان    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب الجزائري وتجلي الاستعمار والإرهاب
نشر في الحوار يوم 09 - 04 - 2018

د- وليد بوعديلة / جامعة 20 أوت 1955- سكيكدة
تعتبر تقنية استدعاء التاريخ وقضايا الإرهاب بما فيه من شخصيات ووقائع من التقنيات المهمة في الرواية الجزائرية، وهي تعود لأسباب مختلفة يتداخل فيها الثقافي والسياسي والفني، وتحضر في مختلف الأجناس الأدبية والأنواع الفنية، وقد حضرت في نصوص كثيرة في لحظة الاقتراب من القضايا المجتمعية التي تظهر مع التغيرات والتحولات السياسية التي مرّ بها المجتمع، ولقد قرأنا هذا الأمر في روايات واسيني الأعرج، بشير مفتي، أحلام مستغامي، لامين الزاوي، رشيد بوجدرة، عز الدين ميهوبي، عز الدين جلاوجي، محمد مفلاح…

1/التاريخ الاستعماري وقضايا الراهن الجزائري:
ولأن الروايات التي تفاعلت مع التاريخ الاستعماري كثير ة، فسنكتفي بنموذج واحد فقط للروائي الأزهر عطية، عاد فيه إلى ذاكرة الشهداء وقدّم حكاية رمزية تقرأ الراهن بعين الماضي، وتحاول أن تتبع وفاء أو خيانة الجزائريين لتاريخهم.
فبعد أن اشتغل على التاريخ السياسي الجزائري والتراث الشعبي في روايتيه "المملكة الرابعة" و"غرائب الأحوال" (صدرتا سنة 2007)، يقدم الروائي الأزهر عطية في رواية "الرميم" (دار الكتاب العربي، الجزائر، 2014) محاولة للمزج بين التاريخي والراهن في رواية تتحدث عن محاولات إعادة جمجمة شهيد لرميم جسده قبل الاستقلال وبعده، بعد أن استشهد في إحدى المعارك ضد المستعمر الفرنسي، فما هي العوالم الدلالية للرواية؟، وما قصة الرميم فيها؟…
تتشكل الرواية من ثلاثة فصول يحمل كل واحد فيها قصة المجد الثوري الجزائري لكن بتقنيات وتصورات مختلفة مرتبطة فيما بعضها، فأرملة الشهيد "الكاملة" لا تتوقف عن سفرها المفجع الحزين بحثا عن رأس زوجها الشهيد، وفي هذا الفضاء السردي البطولي يقرأ القارئ مشاهد فلاحية ورعوية كثيرة، تجعل من أسلوب الرواية رومانسيا بامتياز.
لا يكتفي السارد بسرد الوقائع اليومية للفلاحين وأخبار المجاهدين وتنقلاتهم فقط، وإنما يقترب من ممارسات المستعمر وهمجيته في البطش والتعذيب وقنبلة القرى وعرض جثث الشهداء في الساحات، كما تلتفت الرواية من حين إلى آخر للثقافة الشعبية، مؤكدة على أن الأزهر عطية عارف بالعادات وبالموروث الشعبي، وهو يتحرك أدبيا بفضل ذاكرة شعبية في السياق وفي النص، ويشكل عالمه الإبداعي عبر لحظة فنية تمزج الحدث التراثي بالحدث السياسي والفكري، لتمنح القارئ متعة الانفتاح على رواية تقدم فضاء متخيلا فيه من القيم الأصيلة والسياسة والفكر والعاطفة دون السقوط في الوعظية والتقريرية.
وبعد أن تتعرف الزوجة على جثة زوجها الشهيد (رغم قطع رأسه بقنابل فرنسية)، تسعى لجلب الجثة ودفنها تحت شجرة الزيتون بالقرب من المنزل من دون أن يكتشف الفرنسيون الأمر، وهنا يقدم السارد وصفا صوفيا للشهيد، و قد لاحظت القراءة أن الروائي لم يذهب بعيدا في التأريخ للثورة التحريرية ومعاركها وبطولاتها، وكأنه كان مشغولا بفكرة ما أو كأنه لا يريد أن يعيد ما كتبه غيره من الروائيين الجزائريين، وما قدمه السينمائيون والمسرحيون من مشاهد ثورية وأعمال فدائية، أو أنه كان مصدوما بما يقرأه أو يسمعه من صراع واتهام وتلاسن بين المجاهدين (شهدت سنوات ما بعد 2010 ظاهرة الاتهامات المتبادلة بين المجاهدين عبر الصحف والفضائيات)، بمعنى أن الكاتب أراد إنجاز قراءة فنية دلالية مغايرة للحدث الثوري المجيد.
فالوطن الذي يخون ذاكرته- منظور سوسيو نقدي للنص- يتحول إلى رميم، ولا أهمية من بقائه المادي في ظل ضياعه القيمي الرمزي، والإنسان الذي يدوس على قيم وعهد من منحه الحرية لا يستحق الحياة، وسيكون ذليلا مهانا في محفل الأمم، بل هو رميم أو هو إنسان مشوه، منحط، تافه، معوق… رغم مظاهر الزيف المدني التي تحيط به؟!.
تظل صورة الجثة مقطوعة الرأس -عبر كامل الرواية- تحرك وجدان الأرملة وتخلخل فكرها وتتحكم في حياتها، فما هي الدلالة والرمزية؟، ألا يحمل مشهد اختفاء رأس الشهيد دلالات اختفاء قيمه وأفكاره وأحلامه في الجزائر المستقلة؟، ألا تحمل صورة الرميم الذي لا رأس له دلالة غياب رأس (مبادئ/ فكر/ أخلاق) هذا الوطن وتراجع أبنائه عن الوفاء للشهداء؟!.
لم يضع الكاتب اسم "الكاملة" لأرملة الشهيد إلا ليقول نقصنا وهواننا، وهي تحمل صورة المرأة الجزائرية المجاهدة والمناضلة عبر التاريخ، وكيف لا ترفض "الكاملة" أن تمنح –بعد الاستقلال- رميم زوجها الشهيد للسلطات المحلية قصد دفنه في مقبرة الشهداء، وهي تسمع -مثل كل الجزائريين- عن مقابر تحوّلت لأماكن عبث ومجون وشرب للخمور؟.
تحيل الرواية في عمقها إلى أن الذين صنعوا المجد النوفمبري الخالد لم يتمتعوا بالاستقلال، فمنهم من مات ومن عاش عانى في صمت بعيدا عن الأضواء والامتيازات، وعانت الجزائر التي ماتوا لأجلها من خيانة بعض زملائهم في الكفاح لأنهم لم ينقلوا قيم الجهاد والتحرر بسبب انشغالهم بالسلطة والمال والعقارات والتحكم في الوطن باسم الشرعية الثورية، لا الشرعية الدستورية والديمقراطية؟
يؤمن الكاتب بشرف الجهاد وقداسة الشهادة، لكنه بقي مصرا على الانتقال بالرميم من قبر إلى آخر… كما يلتفت الروائي لهجرة الشباب من الوطن ورفضهم للواقع السياسي والاجتماعي، مقدما عواطفهم الجريحة وأفكارهم المتمردة الرافضة لممارسات سياسية فاشلة، يقول النص: "كثيرة هي الأوطان التي تفرض على أبنائها أن يهجروها "، فقد هاجر الشاب الجامعي، ابن الشهيد، وطنه بعد أن لم يحترم السياسيون الفاسدون علمه، وبعد أن تضايق من أفعال الفاسدين ومافيا المال السياسي الذين خانوا عهد الشهداء وتأكد من فشل السياسات الاقتصادية في تحقيق الرفاهية الاجتماعية – الاقتصادية والنمو الحضاري.
وقد انتقلت جثة الشهيد من ساحة القرية إلى قبر تحت شجرة، ثم- بعد أن صارت رميما- إلى صندوق في المنزل، قبل أن تستقر في مقبرة الشهداء في آخر الرواية، لأن الزوجة ظلت تبحث عن الرأس لتلحقه بالرميم من دون جدوى، متحدية المتاجرين بالجهاد، ومقاومة من صنعوا البطولات الوهمية وحوّلوا الثورة إلى سجل تجاري.
وصارت هذه التقنية – المتمثلة في العودة للموتى وتراثهم وحكاياتهم وتأثيراتهم في يوميات الأحياء- حاضرة في السردية الجزائرية المعاصرة بقوة، ويمكن أن نطلق عليها سرديات العودة إلى الموتى/الموت، وهذه المرجعية الفنية/الفكرية، نجدها عند مبدعين نشروا مؤخرا نصوصهم (ما بعد 2014 تحديدا)، مثل محمد مفلاح في روايته "شبح الكليدوني"، زكية علال في روايتها "عائد إلى قبري"، اليامين بن تومي في روايته "الزاوية المنسية"، وعبد الرزاق بوكبة في مجموعته القصصية "كفن للموت"، والروائي عبد العزيز غرمول في رواية" اختلاس رواتب الموتى"، فهم يعودون لقضايا الراهن عبر تقنية استدعاء الموت والموتى، فمادلالات هذا الفعل الفني على المستوى الفكري؟.
لقد توقفنا عند بعض النماذج الروائية الجزائرية التي قاربت التحولات الاجتماعية والسياسية في الجزائر، وحاولت أن تقدم رؤية الروائي لكل ما يقع في المجتمع عبر أدوات فنية مختلفة ومنطلقات فكرية متباينة، لكن المشترك بينها هو ربط الممارسة الإبداعية بالسياق الجزائري وعدم الهروب من التناول الفني للرهانات والتحديات التي تصيب المجتمع، فوقف السارد الجزائري عند قضايا الفساد المالي والتزوير السياسي والصراعات الفكرية، كما قدمت الرواية الجزائرية المعاصرة عوالم تحاور التاريخ وتقرأ عناصره للاستفادة منها في النظر للراهن، فكان الخطاب الروائي رمزيا تلميحيا حينا ومباشرا صريحا في الطرح حينا آخر، وهناك تجارب سردية أخرى يمكن قراءتها والتفاعل مع عوالمها الشكلية والدلالية لمعرفة محطات تاريخية مهمة حول الجزائر المستقلة.
غامر الروائيون الجزائريون -في ظل التعددية السياسية والفكرية- في الانفتاح على موضوعات حساسة ومهمة تتعلق بالشأن الداخلي وتحاور الشأن الإقليمي والدولي، بخاصة بعد سنوات من مشاهد الثورات العربية وما أحدثته من خلخلة في الأفكار والسلوكيات والقناعات، وما حوّلته من قيّم حول النظر للأنظمة الاستبدادية، كما أن تغير المجتمع أصاب الخطاب الأدبي عامة والروائي خاصة بتحولات كثيرة في سياق التفاعل بين المبدع والظروف الاجتماعية السياسية التي يتحر ك ضمنها.

– التاريخ وقضايا التطرف والإرهاب:
يقترح الكاتب عز الدين ميهوبي، في رواية "إرهابيس"، رواية تتشكل من مدينة افتراضية تجمع الكثير من الإرهابيين المشهورين في العالم، ومعهم الزعماء والقادة الديكتاتوريين عبر التاريخ، ومن هنا نحتاج لمفاهيم الدراسات الاجتماعية والأنتربولوجية لدراسة الرواية، ويمكن أن نعتبرها رواية ملحمة الإرهاب، لأنها تجمع الكثير من الملامح التاريخية والثقافية والاجتماعية لمدينة المتناقضات (الفكرية والسياسية) الإرهابية، وهي تنطلق من رحلة بحرية لسفينة تتجه نحو جزيرة تحتوي دولة إرهابستان، والسفينة تنقل بعض الصحفيين من دول مختلفة قصد التفاعل مع مؤتمر الزعماء الذين تلوثت أيديهم وضمائرهم بالدم، وكأن الكاتب ينجز نصا يتماهى مع رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقد صنف الشعراء بين الجنة والنار وأنطقهم في قبورهم وأقام قيامتهم خيالاً وفنا.
يقرأ الروائي الآتي بعيون استشرافية، حيث تقوم قيامة متخيلة وفنية لرجال الدم والنار والقتل والبطش، وهي رحلة سردية فكرية إلى كونية الفعل الإرهابي وتعدد أشكاله ومرجعياته وأدواته، مع الحديث عن فعل القتل، وهو حديث شاهدته الرواية اللبنانية كثيرا في السياق السردي العربي، مثل رواية إلياسخوري"الوجوه البيضاء"(1981)، إلى درجة توقف فيها النقد عند الأبعاد البنيوية الخاصة بالقتل والموت…
لقد أحالنا الروائي ميهوبي إلى البعد الخصوصي في كل فكرة وممارسة إرهابية أو تقتيلية، يقول بيان تأسيس دولة إرهابيس: "إننا نحن الذين أعلنا الحرب على عالم مزيف، وشعوب خنوعة، وساسة يمتهنون الكذب والنفاق، وعلى أفكار تقتل حق الإنسان في أن يرفض ويقول لا.. قررنا هجرة هذا العالم الموبوء وبناء عالم مختلف سميناه على بركة الله إرهابيس، يلتقي فيه القاتل من أجل لقمة العيش، والمؤمن من أجل فرض شرع الله، والثوري من أجل اقتلاع أنظمة فاسدة، والديكتاتور الذي يرى القوة سبيلا للاستقرار، والمتاجر بالسلاح والمخدرات لتحقيق أمنية الموت في الجحيم…". إنه بيان تحالف مافيا السلاح والسياسة والدين، ووفاق قوى الظلامية والشر والمخدرات، كل ذلك "على بركة الله"، مع اختلاف معنى البركة ودلالة الله، بمعنى أنّ الروائي يشكل بناء لغويا دمويا يعيد تشكيل وبناء العالم الدموي الحقيقي، فيتحول المتخيل إلى فضاء دلالي لتحرك عناصر وأدوات متخيلة مستمدة في عمقها من فجيعة الواقع، وقد تكون المدينة افتراضية، لكن التجارب التاريخية علمتنا أن متخيل اليوم هو خطوة لحقيقة الغد، والفن – في روحه وجوهره- استشرافي تنبؤي، وقد احتفت الرواية العربية بأنواع عديدة من العنف، وهو ما تأملته الحركة النقدية العربية، وما المانع- ضمن هذا الإطار- أن تجد الأجيال القادمة مدنا بل دولا بكاملها تجمع قوى الشر والقتل والتخريب وإلغاء المختلف؟، بل ألا توجد ملامح لبدايات تشكل جماعات عرقية، ثقافية، مالية، دينية وسياسية في العالم المتقدم أو المتخلف، تجمعها المصلحة وفقط، وتحركها شهوة المال والأيديولوجية؟، فتتحالف ضد شهوات مغايرة لها، تحت غطاء متعدد وتبريرات مختلفة، فيتحول السلم إلى حرب والاستقرار إلى فتنة. تقول الرواية عن رجال المدينة الافتراضية: " الثوار والقتلة والديكتاتوريون وزعماء المافيا وتجار السلاح والكوكايين كلهم هنا، يعيشون في وئام ويتعاملون باحترام، وهم أكثر ديمقراطية".
لقد لاحظنا أن الروائي ينجز ملحمة الإرهاب عبر دلالات التناقض بين مواقف الإرهابيين والثوار، وتجلى هذا في كثير من الفصول، حيث يطلق المبدع أسماء الشوارع والمحلات والأغاني، في سياق سردي ملحمي يكثف الكثير من المعلومات والأفكار والأخبار والوقائع، من الماضي والحاضر، من التاريخ البعيد والقريب، من حضارات ودول الشرق والغرب.
ونقرأ في النص مشاهد الوصف ولحظات الحوار والانتقال الزمني والنزوع الشعري، كما يحضر الخطاب السياسي والديني والتأمل الصوفي، كذلك التأريخ للأحداث الإرهابية، كما تمنح الرواية القارئ أفقا للبحث في قضايا الهوية والدين، وتاريخ الأصوليات الدينية والفكرية، ف"إرهابيس"- باختصار- هي نص مفتوح عابر للأجناس الأدبية ومنفتح على الفنون والآفاق المعرفية، فنحن نجد أخبار الصحف والنشرات الإخبارية، كما نجد بيانات وخطب الزعماء والقادة (هتلر، بن لادن، القدافي، صدام، تشي غيفارا….)، وكلها تؤكد التداخل الفكري والسياسي في هذه الدولة المتخيلة، بل قد يلتقي القاتل والمقتول في بعض المشاهد، كما تلتقي المتناقضات، نقرأ هذا المشهد أثناء زيارة الصحفيين لمكتبة إرهابستان: "وصلنا المكتبة ذات الباب الخشبي الكبير، كان يقف على المصراعين مسلحان، أحدهما يدخن والثاني يحمل مصحفا صغيرا ويتلو سورة الكهف بصوت مسموع".
يتحول النص الملحمي الإرهابي إلى وثيقة تؤرخ لتاريخ الأفكار والسياسات والانقلابات والثورات، وإذا تأملنا ما يسميه السارد كتاب "الإثم والغفران" في نصه، نجد أن اللغة والمعنى يأتيان لنا من عوالم أسطورية ودينية يتفاعل فيها الروحي مع المادي، السماوي مع الأرضي، الغيبي مع الحقيقي… وكأنها نصوص من الزمن الهندي أو الفارسي أو الصيني القديم البعيد،
ويمكن أن نقول – من منظور البحث في سويسولوجيا الكاتب- أنّ عز الدين قد تعب كثيرًا لكتابة الرواية، تعب ذهنيا وجسميا، لقد تعب وسيتعب القارئ معه، وهذا هو المبدع الحق وهذا هو النص الناضج.
ومن علامات تعب القراءة أنّ القارئ يدهش أمام تلاحق البنى السردية، ويدخل دوامة فكرية تبحث عن السردي المتخيل والسردي الحقيقي، كما يضيع بين ملامح الإرهاب الهمجي والنضال الوطني الثوري الشريف..
لقد عانق عز الدين المبدع ميهوبي السياسي- المفكر عندما اقترب من المرجعيات التي أسست بعض الجماعات مثل أفكار التطرف الإسلامي، وأشار إلى جزائر التسعينات واغتيال الرئيس محمد بوضياف، وقدم عرضا لأفلام تحدثت –عبر العالم- عن الإرهاب والمقاومة، ولعل ما يحسب للرواية أنها نبهتنا إلى أهمية ظهور علم نفس الإرهاب قصد كشف خبايا وأسرار العالم الداخلي لهذا الإنسان المتطرف/القاتل، ثم تأتي التحاليل الأمنية والسياسية فيما بعد.
ولعل أهم مسالة أحالنا عليها ميهوبي هي الاستفهام عن المراجع والنصوص والوثائق الفكرية والدينية والأمنية من أرشيف الزمن الإرهابي في الجزائر؟، وهي مهمة للباحثين المؤرخين وللفنانين وعلماء الاجتماع لتفسير ما حدث، وهي مهمة للأجيال القادمة لكي تعرف قيمة السلم والأمن والصلح وضرورة التغيير الديمقراطي والتداول السلمي، ودور كل هذا في التنمية الاقتصادية والسلم الاجتماعي.
لقد حاولت هذه الدراسة كشف طريقة تفاعل الروائي الجزائر مع التاريخ، بمختلف فتراته الجزائرية والعربية الإسلامية، حيث اعتمد الروائيون الكثير من التقنيات وقدموا الكثير من الأفكار حول هذه المسألة، كما جعلوا من التاريخ قناعا للاقتراب من الراهن الجزائري والدولي، فمنهم من كتب الرواية التاريخية ومنهم من وظف التاريخ في نصه الروائي، قصد مكاشفة قضايا الحاضر وتحولاته الاجتماعية، الفكرية، السياسية، مثل علاقة المثقف بالسلطة، الثورة التحريرية والواقع الجزائري، المجتمع والدين والإرهاب، و قد توصلنا إلى أن الروايات السابقة تفاعلت مع الكثير من المحطات التاريخية الجزائرية والعربية والدولية، قصد تحليل بعض المظاهر الاجتماعية والسياسية والثقافية من عمق المجتمع، وقد يقع الاختلاف في التفاعل – فنيا وفكريا – مع التاريخ بحسب المرجعيات الجمالية والقناعات الأيديولوجية، مع تحقق جمالية الكتابة الإبداعية وأصالة الانتماء التاريخي، وهو ما يدفع القارئ إلى التسلح بالمعرفة التاريخية والانفتاح على كثير من المعارف التي تتجه نحو الفلسفة والدين والعلاقات الدولية والكتابات الإستراتيجية والفقهية وغيرها، فلا تكون مهمة التأويل سهلة عند نقد نصوص سردية تنفتح على التاريخ و تقترب من الراهن الوطني والعربي والعالمي..
د/ وليد بوعديلة (جامعة سكيكدة -كلية الآداب واللغات)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.