من الصدف الجميلة أن يتزامن تنظيم الأيام الثقافية التونسية في الجزائر في شهر أفريل مع تدريسنا لقصيدة الشاعر الوزير عز الدين ميهوبي"الفراشة والمسوخ" لطلبة ماستر الأدب الجزائري بجامعة سكيكدة، في مادة جماليات الشعر الجزائري، والقصيدة مهداة إلى روح الشهيدة الطفلة التونسية "سارة الموفق"، شهيدة مدينة بن قردان التي سقطت في ميدان الشهادة، بعد عمل إرهابي وحشي، وقد نشرت الصحافة الجزائرية القصيدة في شهر أفريل من سنة 2016. ومن المنابر الإعلامية الجزائرية التي وجدنا القصيدة منشورة فيها، نذكر جريدة صوت الأحرار(عدد 5537- في يوم 6 أفريل 2016)، ولسنا ندري إذا كان الإعلام التونسي المكتوب قد نشرها. هذا النص أم هذه الرصاصة؟ إن من يقرأ القصيدة، سيكتشف أنه قرأ بارود رصاصة في وجه الإرهاب الدموي، نقرأ في المطلع: لك ما شئت من الحلوى ومن شدو العصافير لك القصص التي تروى لأطفال يغنون وللشمس التي تأتي.. لعاشقة بلا مأوى لك النجوى لك الفرح الذي أزهر على بوابة المرمر ومثل سلاحف النينجا لك الحلم الذي يكبر لك العمر الذي يصحو على غده وفي يده بقايا طفلة تجري. وقبل أن نتأمل بعض المقاطع من القصيدة نحيل القارئ على مجلة "الحوار"، عدد 4 أفريل 2018، التي أنجزت حوارا مطولا مع وزير الثقافة الجزائري، عز الدين ميهوبي، قال فيه "لا جدوى من وزير لا يدافع عن الإبداع". وقد اشتريت المجلة بكشك متعدد الخدمات بحي مرج الذيب بمدينة سكيكدة، وهذا يدل على نجاح السياسة التسويقية والتوزيعية للمجلة، فمن النادر أن تجد في الجزائر العميقة المجلات الفنية والاجتماعية والثقافية التي تصدر في العاصمة. وأحيل القارئ إلى حوار المجلة مع الوزير لأنه يأتي في سياق تشكيل الحياة عبر الموقف الثقافي الداعم للإبداع والمكافح لأجل الجمال والثقافة والفن، وهو ما يجده جمال النص الشعري وأفكاره المقاومة للإرهاب .. ويكتب الشاعر عز الدين ميهوبي، كل ملامح الجمال وقداسة الجلال في حضرة الطفلة الشهيدة سارة، فلها ولتونس البقاء، ولها الفرح والديمومة ومع الشمس بدلالات الوهج الإنساني الواقف في أمام ظلمات الهمجية المتطرفة الخارجة من زمن الإنسانية والداخلة في زمن ال(…)، عذرا أيها القارئ لا يمكن أن نشبههم -هنا- بالحيوان أو الأنعام، لأن في السياق القرآني يوجد من البشر الضالين من هم أضل من الأنعام سبيلا؟. والقصيدة تندرج ضمن فضاء شعري عربي ممتد، ضمن الحداثة الشعرية، ومن تجلياتها الجمالية/الدلالية، نجد حضور البعد الدرامي والسردي في النص الشعري "الفراشة و المسوخ"، وكذلك حضور توظيف أساطير العودة من الموت والعالم السفلي، فتتماهى الفتاة التونسية سارة مع شخصيات أسطورية يستدعيها النص الشعري مثل عشتار الفينيقية وإزيس الفرعونية وغيرهما من الأسماء في حضارات أخرى بذات الأفعال والمرويات الأسطورية.. ونجد في القصيدة حضورا لأساطير الحياة من بعد الموت الناتج عن الاحتراق، فيحضر الرماد (الطائر الفينيق)، كما تحضر إشارات شعرية للأساطير والنصوص الدينية الخاصة بالفداء والتضحية، وملامح من قصص الخلود في ملاحم الحضارات القديمة… ومن الملامح الفنية نجد القصيدة تعتمد شعرية البساطة والوضوح، التكثيف اللغوي الدلالي، معجم الألم والأمل، المزج بن الإنشاء والإخبار، الاشتغال على المجاز والترميز، شعرية اليومي والعادي… وغيرها من الخصوصيات التي يمكن للقارئ المتخصص كشفها وتحليلها.
تونس.. لا تبكي ثم يواصل الشاعر سفره أمام الطفلة التونسية، ويكشف الخيانات التي تدوس المجد والوطن، وتريد أن تحول الأرض إلى خراب، والذاكرة إلى هوية قاتلة بل قتّالة، عبر قيم ضيقة ورؤى معتوهة قاصرة عن التأمل، ويشبه الشاعر ميهوبي الشهيدة بالزهرة، ومن ثمة بدلالة الحياة والأمل والخصوبة، ولا يريد الشاعر أن تبكي تونس، ليجد القارئ النص يتحرك بين ثنائية "الموت/ الإرهابي" و"الحياة/ الوطن والشهيدة"، ثم يعلن التوحد الصوفي في جلال الشهادة: يد الأطفال لا تلوى قطفتم زهرة السوسن فصب العطر لعنته عليكم أيها القتلة دم الأطفال لن يحزن ستطلع منه آيات تدين الكفر والجهلة ويأتي موكب الأطفال يرقص حاملا تابوت الطفلة احترقت رماد الروح ملتحفا رداء الله والياقوت يتحول النص الشعري هنا إلى مجال فكري وفني صوفي، ولا يمكن للغة العادية أو الشعرية أن تقترب من جلال الشهادة، بخاصة عندما تكون الشهيدة طفلة جميلة بريئة لا تعرف من الصراع السياسي أو الديني أو الفكري أي شئ، ويرتقي النص الأدبي إلى عوالم التوظيف الأسطوري لرموز الرماد وما فيه- في الأساطير- من تجدد بعد لحظة الموت، وأن قصيدة "الفراشة والمسوخ، لعز الدين ميهوبي هي قصيدة الحياة رغم أنها قد كتبت في لحظة ألم الموت، ويبدأ الصراع لأجل الحياة(حياة تونس والإنسان التونسي، بل حياة الإنسانية عموما) من خلال العنوان. ويبدو أن الشاعر مدرك لجماليات التقديم والتأخير وأبعاده الدلالية، وقد جاءت "الشهيدة-الفراشة" هي الأولى في تركيب العنوان رغم أنها هي التي سقطت وغادرت هذه الدنيا، وجاء الإرهابي هو الثاني من خلال لفظ الممسوخ وليس صفته الهمجية، رغم سلطان الرصاص والنار في يديه؟. وصاحب القصيدة وفق في اختيار هذا الوصف الذي يعبر عن رفض الإنسان لبعده البشري وبحثه عن بعد آخر ممسوخ، مشوه، معتوه، مجنون، قبيح…وكل علامات التفاهة والنذالة. إن القصيدة جميلة بمفاهيم علم الجمال ونظريات الأدب والإبداع، وتحتاج لتأملات نقدية بطرائق معرفية منهجية متعددة، وهي "القصيدة/ الرصاصة" في مواجهة أوراق التطرف والتكفير ورصاصات الغدر والبطش.. وأتمنى من القارئ الجزائريوالتونسي والعربي عموما أن يلتفت لها، ليس لأن صاحبها هو الوزير عز الدين ميهوبي، وإنما لأن كاتبها هو المبدع الشاعر ميهوبي، وقد أعجبت القصيدة طلبتي في جامعة سكيكدة، ولكني نبهتهم لضرورة تتبع صوت التحدي والمقاومة فيها، لأننا يجب أن ننتصر على التطرف والإرهاب عبر الزمان والمكان، ويجب أن تظل تونس الحياة والسياحة والفن والإبداع واقفة، وهو ما نقرأه في القصيدة: فلا الإرهاب يحرمني من الوطن الذي يعلو و لا الغربان تمنعني من الصوت الذي يحلو أنا بوّابة المعبر إلى النصر الذي يأتي بشائره دمي الأحمر في الختام، إن قصيدة الشاعر الجزائري عز الدين ميهوبي، هي صوت الجزائر المقاومة للإرهاب، وهي هدية جميلة جلية من وطن الشهداء للأشقاء التونسيين، تقول لهم بأن المجد للشهادة والبقاء لروح الفداء، وكم أتمنى أن تتحول القصيدة إلى أغنية بلحن وصوت الموسيقي التونسي الكبير لطفي بوشناق، بل إني أعتبر هذه الأسطر رسالة مفتوحة للفنان التونسي العربي الكبير لطفي بوشناق من أستاذ جامعي جزائري، يطلب منه أن يسعى لتلحين هذا النص الشعري المميز وغنائه، لأني أعرف الذوق الراقي والوعي الطربي لفناننا، ولما لا يكون التنسيق التونسيالجزائري لإنجاز عمل فني تلفزي ينقل للعالم قصيدة غنائية تعبر عن الطموح العربي في تجاوز محن الفتن والصراع، والنار والدماء والتطرف والإرهاب. وكم أتمنى أن تعيد الصحافة المكتوبة نشرها أو أن يتبادلها عشاق مواقع التواصل الاجتماعي الفني والأدبي، أو تحاول القنوات العربية أن تبحث عن أصوات تجيد إنشادها لمقاومة مشاهد دموية الإرهاب، كل ذلك للتعريف بالقصيدة الرصاصة، لأنها تعبير جميل عن موقف إنساني عالمي من همجية الإٍرهاب، وهنا ننتصر للجمال والحياة. قلم-د: وليد بوعديلة