بعد أن أتم المؤذن أذانه، قام الإمام واقفا على منبره الخشبي المحاط بالرخام والزخارف البديعة، واستقبل بوجهه جموع المصلين في حلته الجميلة جمال زينة الدنيا، واقترب من ''الميكروفون'' الذي يعتبر حسنة من حسنات الدنيا، يحفظ للإمام حباله الصوتية، ويسمع كلامه القريب والبعيد بالسوية، تحيط به وتعلونا أنوار المصابيح المضيئة، التي تزين في ثرياتها سقف المسجد وتزيده رونقا وجمالا، فحمد الله وأثنى عليه بما استطاع، ثم صلى على النبي الحبيب المصطفى، وبدأ بعد ذلك موضوع خطبته الذي خصصه للدنيا سبا وشتما ولعنا لها، وتنفيرا وتزهيدا منها، يصفها بالنذالة والحقارة، وأنها مطية الهلاك والخسران المبين، وأن طالبها كمن يطلب عجوزا شمطاء قبيحة المنظر والمخبر. مستدلا في ذلك بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ''الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه'' وبعض الآيات التي تذم الدنيا في سياقات مختلفة، كل هذا وأنا جالس مستمعا أقول في نفسي: إن هذا الكلام حق، ولكن في الأمر خللا ما، إذ الدنيا ليست بهذه الصورة السوداوية القاتمة، وأن الفكرة ما طرحت في جغرافيتها المناسبة وموقعها الطبيعي إن جاز التعبير، وقد ازدادت هذه القناعة رسوخا في ذهني بعدما نظرت حولي فرأيت الكثير ممن يؤمون هذا المسجد هم من الفلاحين والعمال البسطاء وصغار التجار في أحسن أحوالهم، أو ممن سرحوا وطردوا من مؤسساتهم بعدما أعلنت إفلاسها، أو ممن تحصلوا على شهادات جامعية ولم يجدوا وظيفة تناسبهم وتحفظ لهم ماء وجوههم...وخرجت بذهني من المسجد ورحت أسير في طرقات الحي المزخرفة بالحفر المتنوعة الأشكال المليئة بالمياه الصالحة وغير الصالحة، ووصلت إلى البيت الذي أسكنه، فوجدتني كغيري كثيرين لا أملك فيه إلا حجرة للنوم مع أهلي وأولادي، وأما بقيت المرافق من المطبخ ودورة المياه والحمام والرواق فيحكمها قانون الإشتراكية القسرية مع بقية أفراد العائلة، ثم نظرت إلى رجل كان يجلس أمامي وعظام ظهره وعموده الفقري بارزة لفاقته وحاجته إلى الطعام، فقلت في نفسي لا شك أنه يعاني سوء التغذية، أو أنه لم يأكل اللحم منذ العيد أوأمد بعيد، وتذكرت رجلا مثله رأيته يوما يدخل ورشة العمل وقت الغداء يحمل في يده خبزة وقارورة مشروبات غازية يسد بهما رمق الجوع، كما تذكرت الكثيرين ممن يمرون أمام دكاكين الجزارين فيتنهدون حزنا لعدم تمكنهم من شراء بعض اللحم لأولادهم، وتذكرت أناسا آخرين يشترون الحليب والخبز بالدين الذي ربما عجزوا عن تسديده آخر الشهر، وآخرين يدخلون السوق ولا يشترون إلا الرديء والرخيس من الخضر والفواكه، وكم يوجد في جزائرنا العميقة من أمثال هؤلاء أو أسوأ منهم ممن يؤمون المساجد ويسمعون أمثال هذه الخطب والمواعظ، ولما رجعت من رحلتي الفكرية، وجدت الإمام لا يزال يخطب في الناس محذرا لهم من الدنيا وشهواتها وغوائلها فقلت في نفسي: أأمثال هؤلاء يحذرون من الدنيا لتركها وعدم الإشتغال بها؟ ماذا أخذ هؤلاء من الدنيا حتى يحذروا منها ويزهدوا فيها؟ إن الخوف الحقيقي على أمثال هؤلاء أن يكون حرمانهم من الدنيا هو سبب انحرافهم وكفرهم، ولذلك ورد في الأثر أن الفقر كاد أن يكون كفرا، ومن أقوال السلف: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفقر ومن الجوع ويقول عنه بأنه بئس الضجيع، وبالرجوع إلى سيرة الخلفاء الراشدين نجد اهتمامهم واضحا بتحسين مستوى حياة الرعية ودفع المسكنة والفاقة عنهم والعمل على إعمار الدنيا وبناء حضارة قوية فيها، ثم إن الدنيا ليست شرا كلها بل فيها من الخير الشيء الكثير لذلك فنحن ندعوا بدعاء القرآن ''ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة'' قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ''فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل'' وخلاصة القول أنه ينبغي على المسلم أن يفهم حقيقة الدنيا في إطار ثنائية متلازمة الأولى: أن الدنيا ليست شرا محضا وإنما يقع الشر فيها بسبب تعدي الإنسان وسوء تصرفاته فيها، لذلك نجد فيها ملوكا أشرار كفرعون وقارون، وملوكا أخيار كسليمان بن داوود عليهما السلام الذي أوتي النبوة وطلب من الله ملكا دنيويا واسعا لا ينبغي لأحد من الناس بعده، فاستجاب الله دعاءه وأعطاه ما أراد، وما يقال عن الملوك والرؤساء يقال عن عامة الناس والدهماء. الثانية: أن الحرمان من خيرات الدنيا وملذاتها يكون أيضا سببا في فتنة كثير من الناس وصدهم عن الخير وعن الصلاح، وإذا نظرنا إلى عدد المرتدين والمنتحرين بسبب الفقر وضيق المعيشة، وجدنا الجواب شافيا عن دور الفقر في هلاك الناس في دينهم ودنياهم، وفهمنا لماذا يفعل التبشير فعله ويؤتي أكله في الدول الإفريقية الفقيرة، وفي المناطق النائية والمحرومة من أرض وطننا الحبيب. ولهذا فالسعيد حقا هو من عمر دنياه ونفع بها نفسه وغيره وجعل ذلك مطية لآخرته، فيكون قد أوتي الخيرين معا، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم قيض لهذه الأمة من يحسن لها أمر دنياها كما قيضت لها من يحسن ويجدد لها أمر دينها آمين.