عرض امحمد بن لعرباي الحفيد الأصغر للدكتور محمد الصغير بن لعرباي في زيارتنا إلى منزل الدكتور الذي تحول إلى شبه متحف، حسب ما يبدو عليه من مدخله الرئيسي، الجزء الذي ظل بعيدا عما دونته كتب التاريخ عن حياة جده الأكبر، حيث قص علينا أحداثا من حياة الدكتور بقي أفراد العائلة يتناقلونها أبا عن جد وحدّثنا عن الجوانب الإنسانية في حياته ومواجهته للإدارة الفرنسية آنذاك دفاعا عن حقوق الجزائريين والفقراء حفاظا على الهوية الجزائرية والإسلامية في مواقف متكررة، حادثة إنقاذه للجامع الجديد المتواجد بساحة الشهداء ومسجد كتشاوة من التهديم. عبّر امحمد بن لعرباي عن الرغبة الشديدة لجميع أفراد عائلته في أن يحظى جدهم بالمكانة اللائقة به، فكما قال، على الجهات المعنية أن تحافظ على ذكرى هذه الشخصية التاريخية الهامة على الأقل في المجال الذي نشطت فيه، فلا زال اسم العلامة محمد الصغير بن لعرباي غير معروف لدى أهل الاختصاص من الأطباء سوى القلة القليلة من القدامى الذين بحثوا في تاريخ وفكر الطب الجزائري، ''لذا نطالب، قال محدثنا، أن يخصص درس من دروس مادة تاريخ الطب بتناول حياة وأعمال الدكتور، كما نطالب وبهدف التعريف به أن تأخذ إحدى المؤسسات أو الصروح العلمية تسميته تخليدا لروحه، كجامعة الطب الجديدة التي لا زالت طور الإنجاز على مستوى بن عكنون، أو حتى على أحد المستشفيات الجامعية الكبرى ليبقى محفوظا دائما، كما نطالب من فرنسا أن ترجع النسخة الأصلية لمذكرة الدكتوراة الخاصة به والتي لم نتمكن سوى من الحصول على نسخة واحدة منها فقط''. ما قدمه الدكتور محمد الصغير في عالم الطب لازال وإلى حد اليوم مرجعا أساسيا للأطباء في أوروبا، وتعد مذكرة تخرجه من كلية الطب في جامعة باريس في 16 جويلية 1884 تحت عنوان ''الطب العربي في الجزائر''، مرجعا هاما لطلبة تخصص أمراض وجراحة الأعصاب، حيث تحصل على شهادة الطب وشهادة الدكتوراه بتقدير جد جيد في توقيت لم بكن للأوروبيين أنفسهم الفرصة في أن يزاولوا دراستهم بالجامعات نظرا للظروف الصعبة التي عاشتها أوروبا في تلك الفترة. كان جدي، قال امحمد بكل افتخار، ملما بأمور الدنيا والدين، فعلاوة على كونه طبيبا كان قد حفظ القرآن قبل مغادرته أرض الوطن من أجل مواصلة مشواره الدراسي، وبعد عودته إلى الجزائر محملا برصيد علمي هام كرّس ممتلكاته وماله وسخرها لأبناء شعبه وجعلها في ومتناول يدهم، ووفر لهم الخدمات الصحية بأسعار جد منخفضة ومجانا أحيانا، مجنبا إياهم دفع مقابل العلاج لدى الأطباء المعمرين، ولاسيما في حالات إجراء العمليات الجراحية الدقيقة. خصص حديقة كبيرة في السيدة الإفريقية لغرس الأعشاب الطبية كان الطبيب بن لعرباي يشرف في عيادته الخاصة المتواجدة على مستوى زوج عيون على معاينة المرضى وكذا إخضاعهم للعمليات الجراحية باختلاف أنواعها، إلا أنه برع وعلى غير المألوف بين أطباء عصره في إنجاح عمليات جراحة الأعصاب وتحديدا الرأس والتي كانت ناجحة جميعها، حسب ما أثبتته وثائق متابعة الحالات التي خلفها الدكتور كأدلة. وحوّل جزء من ممتلكاته الشخصية إلى حديقة خاصة لزراعة الأعشاب الطبية، ولم يكن يستغلها بهدف تجاري ببيعه إياها، وإنما وجهها للصناعة الصيدلانية بصفة أدق، حيث أدى بالإضافة إلى عمله كطبيب وجراح، دور البيولوجي والصيدلاني في آن واحد حيث يصنع الدواء المناسب لكل حالة وبالمقدار اللازم، ليقوم بصنع دواء آخر في حال لم ينجح الأول في تحسين حالة المريض.ونجح الدكتور بن لعرباي أيضا في مواجهة داء الطاعون بقيامه ببحوث، استطاع من خلالها أن يصنع وصفات أدوية من أعشاب حديقته أنقذ بها أرواح الكثيرين في تلك الفترة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. عضويته بالمجلس البلدي كانت لصالح الجزائر انحدر محمد الصغير الذي ولد بمدينة شرشال من عائلة تركية الأصل، أظهرت وأكدت البحوث التي قام بها الحفيد الأصغر وزوجته بتركيا أنها من سلالة الخليفة الإسلامي الحاكم في تركيا خلال عهد الفتوحات، وجاءت للتموطن بمنطقة شرشال في تلك الفترة، فالوثائق والممتلكات التي لازالت بتركيا والتي حوّلت معظمها إلى متاحف تشهد على أصالة وعراقة عائلة بن لعرباي، حيث كشف الحفيد الأصغر في لقائه معنا، أنه لقي الترحيب الكبير بتركيا ووضعت تحت تصرفه جميع التسهيلات للبحث في تاريخ عائلته، وتمكن من دخول ممتلكات أجداده والاطلاع على نمط معيشتهم وبالتالي العوامل التي ساعدت على نبوغ أحد أبنائها ألا وهو جده الكبير محمد الصغير في عالم الطب، حيث لعبت المكانة الاجتماعية والاقتصادية لعائلة بن لعرباي بالجزائر الدور الكبير في تمهيد طريقه نحو الشهرة. كما شكل انحداره من عائلة عثمانية مسلمة عريقة عاملا فاصلا في دفاعه عن الجزائريين في وجه الاحتلال الفرنسي، وباحتلاله منصب عضو بالمجلس الشعبي البلدي، حيث لم يكن يخشى ردة فعل الإدارة الاستعمارية جراء أي تصرف يقوم به وهو يعلم تماما أنها لن تتقبله. ومن بين المواقف الصارمة التي يشهد له بها ذلك الموقف الشجاع الذي دونته كتب التاريخ وخاصة كتاب تاريخ الجزائر العام في جزئه الرابع ل عبد الرحمان بن محمد الجيلالي، حيث منع الإدارة الاستعمارية سنة 1881 من تهديم معلمين تاريخيين إسلاميين محاولة منها لطمس الدين، فكما تناقلته الكتب ورواه لنا الحفيد الأصغر كان العلامة الدكتور بن لعرباي يقوم بحشد الجماهير لمنصة الخطب التي لا زالت متواجدة إلى يومنا على مستوى ساحة الشهداء، ما ردع الإدارة الاستعمارية ودفعها إلى العدول عن خطوتها تلك، فعضويته بالمجلس الشعبي البلدي كانت لصالح الجزائر، أوضح حفيده الأصغر. العائلة تحتفظ بلوحة الصلصال وصورته وأغراضه الشخصية تحتفظ عائلة بن لعرباي بالأغراض الشخصية الثمينة والنادرة للطبيب محمد الصغير ببيته، فالبيت ذاته الواقع بأعالي باب الواد وتحديدا بالسيدة الإفريقية، يعد متحفا شاهدا لأنه من ممتلكات الدكتور بن لعرباي حيث لقي حتفه هناك منذ 70 سنة في انهيار لجزء من الجبل الملتصق بالمنزل، لقي فيه العديد من أفراد عائلة بن لعرباي حتفهم أيضا. وحرص أبناؤه وأحفادهم فيما بعد على المحافظة عليه وترميمه باستمرار مع وضع جدارية من الخزف في نهاية الدرج يمكن لمن تطأ أقدامه البيت مشاهدتها من أسفله. لا يوجد ما هو أغلى على قلب الحفيد الأصغر امحمد من الأدوات الشخصية لجده الأكبر، فكان جد حذر وهو يرينا تلك التحف، وعلى رأسها اللوح والقلم اللذان درس بهما طيلة حياته وبعض الأوراق والمخطوطات. فاللوح لا زال يحمل آثارا لكتابة يده لبعض الآيات القرآنية. كما كانت لنا فرصة الاطلاع على الساعة الشخصية للدكتور والمصنوعة من الذهب الخالص والتي لازالت في حالة جيدة، وهو كل ما تبقى من ممتلكاته الشخصية التي يحافظ عليها امحمد بشكل جيد. تواضعه زاد من شعبيته للدكتور محمد الصغير بن لعرباي أملاك واسعة في العاصمة لا زال أحفاده يحتفظون بها إلى غاية اليوم في منطقة السيدة الإفريقية، إلا أن أملاكا أخرى تحولت مع مرور الوقت إلى ملكية عامة بسبب مخلفات الثورة التحريرية. ففي فجر الاستقلال عندما راحت السلطات المعنية تحصي المواقع التاريخية حيث استشهد أبطال الثورة تم إدماج أحد منازل الطبيب، حيث استشهد الشهيد على لابوانت، إلى المتحف المفتوح، حيث تهدم نصفه وصار من الصعب تحديد الحدود الأصلية فتم إدماجه إلى المتحف. مع العلم، قال الحفيد الأصغر، بحوزتنا جميع الوثائق التي تثبت أنه ملكية خاصة لعائلة بن لعرباي، إضافة إلى منزله الآخر المتواجد على مستوى زوج عيون، ما يدل على عراقة وأصالة العائلة، التي تطالب باسترجاع كافة ممتلكاتها واسترداد مكانة جدها. لم يكن الدكتور متكبرا ولا متعال، بل وعلى العكس من ذلك، منحه تواضعه شعبية واسعة حيث كان يعامل الجميع بنفس الأسلوب لا يفرق بين الغني والفقير. وأفنى وقته وماله في سبيل مساندة المواطنين الجزائريين في القضايا السياسية. وكان يشرف شخصيا على علاجهم ودون مقابل في معظم الأحيان. ولازال صيت العائلة ذائعا بين أهل المنطقة فلم نجد صعوبة في بلوغ منزلها، فلقد كان كافيا أن نسأل عن منزل ''الطبيب العربي''، كما ينادونه هناك، ليدلونا على منزله الذي يعد تحفة تاريخية.