كنا في مجلس فأخرج أحدهم هاتفه النقال وقال لي: تعال لأريك شيئا مضحكا، فأراني مقطعا لشريط فيديو يظهر أحد الأشخاص يصلي منفردا ثم التحق به آخر ليصلي معه جماعة فكبر بطريقة بهلوانية وأصاب صاحبه في أذنه، فما كان من هذا الأخير إلا أن قام من السجود وترك صاحبه ساجدا، ثم تراجع إلى الوراء قليلا وقام بركله على مؤخرته انتقاما لنفسه بعد أن ضربه على أذنه. فقلت لمن عرض علي هذا التسجيل وكان جاهلا بخطورة ما يعرضه بدليل أنه قام بحذف هذا الفيديو من هاتفه قبل أن أنهي كلامي واعتذر عن ذلك، -قلت له-: ألم يبق لهؤلاء الناس ما يتفكهون به حتى لجؤوا إلى الصلاة أعظم شعائر الإسلام قدرا عند الله عز وجل، ثم قلت له بأن هذا التسجيل وإن كان قد وضع للترويح عن النفس والضحك إلا أن فيه إثما كبيرا، لأنه يستهزئ بالصلاة، ثم تبين لي أنه ينبغي الوقوف عند هذه المسألة مليا ذلك أن التفكه والتنكيت بالشعائر الدينية والمسائل الغيبية صار فعلا يمارسه الكثير من المسلمين في عصرنا الراهن، دون أن يستشعروا خطورة هذا الأمر وجنايتهم على الإسلام وعلى تدينهم بصورة خاصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ''ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له ويل له'' فإذا كان هذا مآل من يُضحك الناس بالكذب فكيف سيكون مآل من يُضحكهم بالاستهزاء بشعائر الإسلام!؟ كما يبدو أن الكثير ممن يتناقلون أمثال هذه الأشياء لا يعرفون حكمها وعظم جنايتهم عند الله عز وجل، ومن هذا المنطلق ولبيان الحق في هذه القضية رأيت أن أعرض ضوابط وأحكام المزاح والترويح عن النفس في الإسلام حتى نستطيع أن نمزح ونروح عن أنفسنا دون الوقوع في الذنوب والمخالفات الشرعية. يعتبر الترويح عن النفس حاجة من حاجات النفس البشرية التي فطرها الخالق على بغض الملل والسآمة وعدم القدرة على عيش حياة الجد في كل الأحوال ودون انقطاع، ومن هنا يدخل الترويح في باب المباح الذي يجوز للمسلم أن يتعاطاه وفق ضوابط وأسس محددة تجعله مأجورا عليه وتمنعه من مجاوزة الحد والوقوع في الإثم والحرام. وقبل بيان هذه الضوابط ينبغي التذكير بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح أصحابه وأهله ولكن مزاحه وترويحه عن أصحابه لم يكن إلا بالصدق والخلق الحسن، والكثير منا يذكر قصة تلك العجوز التي يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ''لا تدخل الجنة عجوز'' فحزنت واغتمت لذلك ثم أزال حزنها عندما فسر لها الحديث بأن أهل الجنة كلهم شباب. كما ورد في كتب السنن أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمازحون بعضهم ويروحون عن أنفسهم ولكنه مزاح وترويح في حدود الضوابط الشرعية التي سنأتي على ذكرها فيما يأتي: أولا: المزاح والترويح عن النفس مباح شرعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: '' ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نَسيّاً، ثم قرأ هذه الآية ] وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً[، فالترويح عن النفس داخل في دائرة العفو التي استخلص منه علماء الأصول القاعدة الهامة التي تقول: ''الأصل في الأشياء الإباحة''. ثانيا: الترويح فرع والجد هو الأصل، ودليل هذا الضابط أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمزح إلا قليلا وكانت معظم حياته قائمة على الجد في العبادة والجهاد ونشر دعوة الإسلام، بل إنه حذر المسلمين من كثرة المزاح حين قال: ''ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب''، ثم إن الترويح داخل في حكم المباح ومعلوم شرعا أن الإكثار من المباح ربما أدى إلى المكروه أو الحرام. ثالثا: ينبغي أن يكون الترويح خاليا من المخالفات الشرعية وهذا أهم الضوابط ومن أجله تمت كتابة هذا الموضوع نظرا لكثرة المخالفات الشرعية التي تعتري مزاحنا وترويحنا عن أنفسنا ومنها: *أن يكون المزاح والترويح عن النفس بعيدا عن السخرية والاستهزاء بشعائر ديننا أو أديان غيرنا من الناس فالتنكيت عن الرسل والأنبياء وأخبار اليوم الآخر وشعائر الإسلام حرام ربما أدى إلى الكفر. * ألا يكون فيه أذية للآخرين من سخرية أو لمز ونبز أو ترويع أو غيبة أو اعتداء على ممتلكاتهم بإتلاف أو استخدام. * ألا يكون فيه كذب وافتراء على الناس.* ألا يكون فيه تبذير للمال. * ألا يكون فيه اختلاط بين الرجال والنساء لما يفضي إليه ذلك من النظر المحرم، والخلوة المحرمة، بالإضافة إلى أنه قد يكون ذريعة لمخالفات شرعية أكبر. * ألا يكون محرما بنص شرعي كالقمار والنرد والتحريش بين البهائم والطيور. * ألا يكون شاغلا عن واجب شرعي أو اجتماعي.