قبل سنوات، وغداة ظهور جائحة أنفلونزا الطيور، كان الناس لا يحسنون نطق كلمة الأنفلونزا، وبعضهم كان ينطقها »أنف الوزة«، ظنا منهم أن المرض الذي ينتقل من الطيور على علاقة بأنف طائر الإوز، وأذكر أنني كتبت ساخرا في »صوت الأحرار« عن »نيف الوزة«.. وشعوب المشرق العربي يعرفون هذه الكلمة من قديم، لأن لغة تدريس الطب هي الانجليزية، والزكام الموسمي هناك يعرف بالأنفلونزا، فلم تكن الكلمة غريبة عنهم، وكل ما في الأمر أن نسبتها جاءت للطيور في الجائحة الماضية، وجاءت النسبة بالإضافة جاءت هذه المرة للخنازير، وهذا دليل كاف للدور الحاسم للغة في وضوح المفاهيم، ولذلك تحرض كل الأمم على تدريس الطب بلغاتها الوطنية إلا العرب!. وشعوب المغرب العربي تعرب كلمة grippe الفرنسية بكلمة الزكام، أما كلمة الأنفلونزا فيعرفها الأطباء للحديث عن فصيلة من البكتيريا كان يعتقد أنها المسببة للزكام، والغريب أن كلمة الأنفلونزا في الأصل جاءت من اللغة الايطالية، وهي مشاقة من اللاتينية وهي بمعنى بتأثير كذا..ومنها كلمة influence إذ كان الناس في أوربا يعتقدون أن وباء الزكام يحدث بأثر الأرواح أو النجوم، فأطلقوا عليه كلمة الأنفلونزا.. وأيام كنا في المدرسة الإعدادية، كان المعلمون يرددون على مسامعنا، أن فهم السؤال يعدل نصف الإجابة، وليت كل المتعلمين فهموا هذا المعنى، فأغلب مآسي البشر مردها إلى غياب الفهم، أو الفهم القاصر المشوه، وقديما عد المتنبي سوء الفهم من البلايا، فقال: وَمن البَليّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوي .. عَن جَهِلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ وقال في قصيد آخر: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الأفهام منه على قدر القرائح والعلوم والبلية تعظم، ويكون وقعها أشد، إذا كان أثر من لا يعرف متعديا، كما يحدث مع وسائل الإعلام هذه الأيام، فالحديث عن الأنفلونزا لم يعد شأنا طبيا، فكل من فتحت له مساحة في صحيفة أدلى بدلوه، وتحول من ناقل للخبر أو معلق على جوانب فيه، انتقل بقدرة قادر إلى منظر وواضع خطط ومقترحات، والمعروف أن حالة الأوبئة المرضية تشبه الحروب، لأن الأمن الصحي لا يقل أهمية عن الأمن الاجتماعي، وكل معلومة خاطئة أو غير دقيقة أو مبالغ فيها، تحدث إرباكا في المجتمع، ولا تعويل على النيات الحسنة في هذه القضايا.. لا أخفيكم أنه يصيبني الفزع، عندما أقرأ عناوين مثل »الوباء يزحف«، »المدارس تغلق«، »اللقاح يتأخر في الوصول«، »تضارب في أرقام عدد الضحايا«، أو الحديث عن وجوب فتح أجنحة للحوامل في المستشفيات، أي نعم كل الحوامل..ومثل هذا الاقتراح هل هو واقعي، وما الهدف منه من وجهة النظر الطبية؟. يؤسفني أن أقول، أن ترجمة هذه العناوين في المجتمع، تكون بتدافع الناس على المصالح الصحية، وفي مصالح الاستعجالات تحديدا، حيث تجد طوابير من المرضى أغلبهم أطفال، وإصابتهم في الواقع لا تتعدى حالات الزكام الموسمي، وبالتالي تكون المستشفيات مكانا مناسبا للزحام بين المرضى، حيث يكفي وجود مريض واحد لنقل العدوى لجميع الموجودين في المكان.. وأسارع إلى التذكير ببعض الحقائق، أن أحسن طريقة لمواجهة جائحة أنفلونزا الخنازير، هي السلوك الصحي السليم، سلوك يحترم بدقة إجراءات الوقاية، مع العلم أنه ليس كل مصاب بالفيروس يعني أنه في عداد الموتى، وأن حالات الوفاة بسبب اختلاطات الأنفلونزا الموسمية، لا تزال أكبر من الوفيات بأنفلونزا الخنازير، وأن أعلب الأسر لا تملك جهازا لقياس حرارة الجسم )المحرار(، وهو آلة بسيطة ومهمة في كل منزل.. والجانب الآخر من التهويل يقع في المستشفيات، بعض العمال لا تربطهم بالمرضى أي علاقة، فتجدهم يلبسون الكمامات والقفازات، وبمجرد خروجهم من المستشفى ينزعونها، ويلتقون بذات الأشخاص في المقاهي وفي الطريق، وهو مظهر يوحي وكأن هذه الإجراءات تفضيل لعمال الصحة دون غيرهم، وما تدل عليه إرشادات الوقاية أن ارتداء هذه الأشياء يخضع لظروف معينة.. ولعل من الأمور المهمة، تذكير وزارة الصحة، بأن عدم اعتماد أسلوب فعال في الاتصال، هو أحد أسباب جرأة من يعرف ومن لا يعرف للحديث عن هذا المرض، وأقل وسيلة تكلفة وأكثرها سرعة، أن يكون للوزارة موقعا على شبكة المعلومات الدولية )الانترنت(، باللغتين العربية والفرنسية، يخاطب الرأي العام والإعلاميين، لأن غياب المعلومة الواضحة، تفتح باب الاجتهاد الخاطئ، ولا لوم حينئذ على المجتهد، ولست أدري سبب هذه الخصومة مع هذا الفضاء الفعال، فالانترنت دخلت كل المدن، ودخلت أغلب البيوت، وهي وسيلة سريعة وغير مكلفة، ووصول المعلومة عن طريقها مضمون..