جعل الله تبارك وتعالى عبده يونس بن متى نبيًا ورسولا وأرسله إلى أهل نينوى الذين كانوا في أرض الموصل بالعراق ليدعوهم إلى دين الإسلام ويعبدوا الله وحده، وكان أهل نينوى عددهم أكثر من مائة ألف قال تعالى: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ "، وكانت قد دخلت فيهم الوثنية وانتشرت فيهم عبادة الأصنام وكان لهم صنم يعبدونه يسمى((عشتار))فذهب نبي الله يونس عليه السلام إلى نينوى في العراق امتثالا لأمر الله وليبلغ رسالة الله فدعا هؤلاء المشركين إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فكذبوه وتمردوا وأصروا على كفرهم ولم يستجيبوا لدعوته، وبقي يونس عليه الصلاة والسلام بينهم صابرًا على الأذى يدعوهم إلى الإسلام ويذكرهم ويعظهم، ولكنه مع طول مُكثه معهم لم يلق منهم إلا عنادًا وإصرارًا على كفرهم ووجد فيهم أذانا صُما وقلوبًا غلفا. وقيل: أقام فيهم ثلاثًا وثلاثين سنة يدعوهم إلى الإسلام ولم يؤمن به خلال هذه المدة غير رجلين، ولما أصروا على كفرهم وعبادة الأصنام ووقفوا معارضين لدعوة نبي الله يونس عليه السلام، يئس يونس عليه الصلاة والسلام منهم بعدما طال ذلك عليه من أمرهم وخرج من بين أظهرهم يائسًا منهم ومغاضبا لهم لكفرهم قبل أن يأمره الله تعالى بالخروج وظن أن الله تعالى لن يؤاخذه على هذا الخروج من بينهم ولن يضيق عليه بسبب تركه لأهل هذه القرية وهجره لهم قبل أن يأمره الله تبارك وتعالى بالخروج. لا يجوز أن يعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه فإن هذا كفر وضلال ولا يجوز في حق أنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هداة مهتدين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنه ذهب مغاضبا لله فقد افترى على نبي الله ونسب إليه الجهل بالله والكفر به إيمان قوم يونس ورفع العذاب عنهم .حذر يونس أهل نينوى من العذاب إن لم يؤمنوا به ويتبعوا دين الإسلام، ثم خرج مغاضبا لهم لإصرارهم على كفرهم وعدم إتباعهم دعوته، ولما خرج عليه السلام وهو يائس منهم تغشاهم صباحًا العذاب وصار قريبًا جدًا منهم، وقيل: ظهرت السحب السوداء في السماء وثار الدخان الكثيف وهبطت السحب بدخانها حتى غشيت مدينتهم واسودت سطوحهم ولما أيقنوا بالهلاك والعذاب أنه واقع بهم طلبوا يونس عليه السلام فلم يجدوه، وألهمهم الله التوبة والإنابة فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخًا وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى فماذا نفعل؟ فقال لهم: امنوا بالله وتوبوا، عند ذلك امنوا بالله وبرسوله يونس عليه السلام وكانوا خرجوا من القرية ولبسوا المسموح وهي ثياب من الشعر الغليظ، وحثوا على رؤؤسهم الرماد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، ثم عجبوا ورفعوا أصواتهم في الدعاء إلى الله وتضرعوا وبكى النساء والرجال والبنون والبنات وجأرت وصاحت الأنعام والدواب، وكانت ساعة عظيمة هائلة وعجلوا إلى الله بالتوبة الصادقة وردوا المظالم جميعا حتى إنه كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فرده إلى صاحبه فاستجاب الله منهم وكشف عنهم بقدرته ورحمته العذاب الشديد الذي كان قد دار على رؤوسهم وصار قريبًا جدًا منهم كقطع الليل المظلم، ويقال إن توبتهم في يوم عاشورا يوم الجمعة، لما وعد يونس بن متى قومه بالعذاب بعد ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا وخرج من بينهم مغاضبا لهم بسبب كفرهم وإصرارهم وتماديهم في غيهم وضلالهم سار حتى وصل إلى شاطئ البحر فوجد قومًا في سفينة في البحر، فطلب من أهلها أن يركبوه معهم فتوسموا فيه خيرًا فأركبوه معهم في السفينة، وسارت بهم السفينة تشق عُباب البحر فلما توسطوا البحر جاءت الرياح الشديدة وهاج البحر بهم واضطرب بشدة حتى وجلت القلوب فقال من في السفينة: إن فينا صاحب ذنب فأسهموا واقترعوا فيما بينهم على أن من يقع عليه السهم يلقونه في البحر، فلما اقترعوا وقع السهم على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، ولكن لما توسموا فيه خيرًا لم يسمحوا لأنفسهم أن يلقوه في البحر، فأعادوا القرعة ثانية فوقعت عليه أيضًا، فشمر يونس عليه السلام ليلقي بنفسه في البحر فأبوا عليه ذلك لما عرفوا منه خيرًا، ثم أعادوا القرعة الثالثة فوقعت القرعة عليه أيضًا، فما كان من يونس عليه السلام إلا أن ألقى بنفسه في البحر المظلم وتحت ظلمة الليل الحالك، وكان إلقاؤه بنفسه في البحر لأنه كان يعتقد أنه لا يصيبه هلاك بالغرق فلا يجوز أن يظن أن ذلك انتحار منه لأن الانتحار أكبر الجرائم بعد الكفر وذلك مستحيل على الأنبياء. وعندما ألقى يونس عليه السلام بنفسه في البحر وكّل الله تبارك وتعالى به حوتًا عظيمًا فالتقمه وابتلعه ابتلاء له على تركه قومه الذين أغضبوه دون إذن، فدخل يونس عليه السلام إلى جوف الحوت تحفه عناية الله حتى صار وهو في بطن الحوت في ظلمات حالكة ومدلهمة ثلاث وهي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، ثم إن الحوت بقدرة الله تعالى لم يضر يونس ولم يجرحه ولم يخدش له لحمًا ولم يكسر له عظمًا، وسار الحوت وفي جوفه يونس عليه السلام يشق عباب البحر حتى انتهى به إلى أعماق المياه في البحر، وهناك سمع يونس عليه الصلاة والسلام وهو في بطن الحوت حسا وأصوات غريبة فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، فما كان من نبي الله يونس وهو في بطن الحوت وفي تلك الظلمات المدلهمة إلا أن أخذ يدعو الله عز وجل ويستغفره ويسبحه تبارك وتعالى إذا قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟ فالجواب: أن يونس عليه السلام خرج من بطن الحوت ضعيفًا مريضًا وهزيلا في بدنه وجلده، فأدنى شيء يمر به يؤذيه، وقي ورق اليقطين - الفرع - خاصية وهو أنه إذا ترك على شيء لم يقربه ذباب، فأنبته الله سبحانه وتعالى على يونس ليغطيه ورقها ويمنع الذباب ريحُه أن يسقط عليه فيؤذيه. وفي إنبات القرع عليه حكم كثيرة منها: أن ورقه في غاية النعومة، وأهمية تظليل ورقه عليه لكبره ونعومته، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى أخره ومطبوخًا وبقشره وببذره أيضًا، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل منه.