أعلن وزير الداخلية والجماعات المحلية، دحو ولد قابلية، أمس، أن صفحة أحداث الشغب قد طويت حتى وإن بقيت هناك بعض المشادات المسجلة في بعض المناطق من البلاد. وذكر وزير الداخلية نعتبر ''من جانبنا أن الصفحة طويت''، في إشارته إلى أعمال الشغب والاحتجاجات التي شهدتها لعدة أيام مختلف مدن البلاد. وقال وزير الداخلية، أمس، لوكالة الأنباء الفرنسية، ''في الساعة التي أحدثكم فيها عادت الأمور إلى مجاريها ولا زالت هناك بعض بؤر الشغب في وسط ولاية بومرداس، وشرق ولاية بجاية وفي المدن الغربية لولاية تلمسان''. من جهة أخرى أوضح وزير الداخلية أن مصالح الدولة شرعت في إصلاح ما يمكن إصلاحه خصوصا المؤسسات التربوية والإدارات العمومية التي تحظى بالأولوية باعتبارها على صلة مباشرة باحتياجات المواطنين. وبشأن حصيلة الخسائر التي خلفتها الاحتجاجات ذكر وزير الداخلية في تقييمه الأولي بأنها ''ضخمة''، مشيرا في هذا الصدد إلى أن الحصيلة البشرية وصلت إلى تسجيل 3 قتلى و800 جريح، فيما طالت الاعتقالات التي باشرتها قوات الأمن أزيد من 1000 شخص، مستطردا بأنه تم إطلاق سراح العديد من الشباب القصّر برفقة محضر سلم لأوليائهم. وشدد وزير الداخلية بأن المتورطين الذين تسببوا في وقوع جروح خطيرة أو قاموا باعتداءات على المواطنين ستتم محاكمتهم من قبل محاكم الجنايات بتنفيذ أعمال مع سبق الإصرار والترصد. وموازاة مع تأكيده على أنه لم يتعرض أي رعية أجنبي لسوء في هذه الأحداث، رغم تعرض بعض فروع الشركات الأجنبية للتخريب، أشار دحو ولد قابلية إلى فشل محاولات بعض القادة الإسلاميين في تبني الأحداث واستغلالها لفائدتهم، مشيرا إلى ما تعرض له الرجل الثاني في الفيس، علي بن حاج، الذي طُرد من قبل شباب باب الوادي. وقال وزير الداخلية في هذا الصدد إن هذا الأخير الذي كان يلهب شباب باب الوادي حماسا في التسعينات من القرن الماضي لم يعد تأثيره إلا محدودا الآن. ردود الفعل الرسمية تكشف قراءة السلطة الخاطئة للأحداث كشفت موجة الاحتجاجات الأخيرة عن قصور واضح للسلطات في إعطاء قراءة عميقة للأحداث، كما دلت على غياب نظرة استشرافية للمستقبل وطغيان سياسة ''التسيير اليومي'' كمشروع يقوم عليه أداء الجهاز التنفيذي. كما عرّت الأحداث بذات القدر محدودية الخطاب الوطني وأيضا الخطاب الإسلامي الذي أعاد إنتاج نفس الأفكار خلال أحداث لم يشهدها المجتمع من قبل. تحيل الأحداث العنيفة التي شهدتها ولايات الوطن، من خلال أفعال عنف غير مسبوقة، إلى قراءات كثيرة تتصل بأداء السلطة قبل وبعد الأحداث، وطبيعة الخطاب الحزبي المسوّق وحالة الشغور على مستوى المجتمع المدني المفروض أنه وسيط بين أسفل الهرم وأعلاه. كما تحيل الأحداث على طبيعتها العنيفة والمتسمة، كما قال وزير الداخلية، ب''التحدي والحقد والكراهية''، إلى حجم قصور الخطاب الوطني الذي لم يخرج من قوقعة الوصاية والأبوية على الشعب، وكذا عدم فعالية خطاب التيار الإسلامي الذي كانت له قدرة تجنيدية في وقت من الأوقات، ما جعل أحداث الشغب ومسبباتها تمر من تحت أرجل الجميع دون أن تجد تلك الخطابات من يستمع إليها. من جهة أخرى بؤرة الاحتجاجات أتاحت الفرصة للتساؤل عن غياب استشراف حكومي لرهانات المستقبل القريب، لقد أجمعت الحكومة ومن ورائها الأحزاب على وصف توقيت الأحداث وحجمها ب''المفاجأة''، وهو وصف يكشف عن قراءة غير دقيقة لنبض الشارع ما قبل نقطة الاحتقان التي تكون بداية للعنف، والذي يفترض أن يقاس لدى ممثلي المجتمع المدني والتشكيلات النقابية ومن ثم الأحزاب التي تمثل في المفهوم العام الوعاء الشعبي لسلطة منتخبة من طرفه، ويضاف هنا قصور دور الولاة وأمناء الدوائر في إعطاء الصورة الصحيحة لأعلى الهرم عما يجول في خاطر الشارع. حتى بعد الأحداث، يبدو أن القراءة المعلنة من قبل الجهاز التنفيذي، تسير نحو اتجاه خاطئ وسطحي، ما دام الأمر إلى غاية الساعة لم يتخط مجرد حصر الحلول في خفض أسعار الزيت والسكر، مثلما ذهب إليه المجلس الوزاري المشترك، رغم أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير. كما أن تعجب وزير الداخلية من حدة ''الحقد والكراهية'' لدى مثيري الشغب في الأحداث الأخيرة، يشير هو الآخر إلى القراءة غير الصحيحة لما جرى في الشارع. كما تكشف التصريحات المتتالية لوزير التجارة، واتهامه في كل مرة لزمرة من ''المضاربين'' دون تحديدهم، أن الحكومة لا تجيد قراءة واقع السوق المحلية ومن يتحكم فيها، بدليل أن أحداثا كثيرة وجدت فيها الحكومة نفسها خارج الأحداث، على غرار أزمة البطاطا والحليب والخبز والفرينة، ويعكس ذلك أن الحكومة باتت اليوم ضعيفة أمام سلطة المال المتجسدة في ''رفض عصبة كبار التجار'' لقرارات الحكومة التي تقول إنها ''حمائية'' للاقتصاد، ثم أن تعليق الجهاز التنفيذي لهذه الإجراءات السيادية فيما بعد لا يمكن تفسيره خارج ''الرضوخ لسلطة المال'' المتنفذة حاليا داخل الأحزاب والبرلمان والمجالس المنتخبة. جيل حالة الطوارئ يحدث طوارئ في البلاد ظلت الدولة في الجزائر دوما تصفي حساباتها وأزماتها في الشارع، لكن لم يحدث قط أن أخذت برأي هذا الشارع في قراراتها، غير أن ما حدث من ''تهراس'' من تبسة إلى سوق أهراس ومن بومرداس إلى سيدي بلعباس، لم يكن قدرا منزلا بقدر ما ساهمت فيه عوامل موجودة على الأرض من صنع إخفاقات النظام، أنجبت جيلا جديدا لم يكن شاهدا على أكتوبر بل على حالة الطوارئ. الذين خرجوا إلى مختلف الشوارع في المدن الجزائرية لا يقل عمرهم عن 12 سنة ولا يزيد عن ,18 وهم بالتالي إما متسربون من المدرسة الجزائرية التي تلفظ سنويا قرابة 250 ألف تلميذ، ولم يجدوا أمامهم سوى الشارع، أو أنهم يزاولون دراستهم مع اقتناعهم بأن شهاداتهم لن تمنح لهم تأشيرة العبور للمستقبل في الجزائر أو حتى في الخارج. وما لوحظ في هذه الاحتجاجات أيضا درجة العنف التي لازمتها، بحيث كان فيها صوت الحرائق و''التكسار'' أقوى بكثير من أي هتافات أو شعارات، وهو ما جعل رسالتها صعبة الفهم والتشفير، حتى وإن غلفت بطابع الدفاع عن القدرة الشرائية وغلاء الأسعار التي لا تمثل سوى الجزء الظاهر من عنفوان تلك السلوكات الاحتجاجية. هذا الجيل عاش أنواعا شتى من الكبت، لكونه تربى حتى سن المراهقة في محيط سياسي واجتماعي واقتصادي مليء بالعنف والجريمة، من المجازر الجماعية والتفجيرات الإرهابية في الأماكن العمومية إلى منع المسيرات وحظر التجمعات بفعل حالة الطوارئ التي دخلت عامها 18 دون تبديل أو تغيير. وطيلة هذه الفترة ازدادت الحواجز الأمنية في كل حدب وصوب، وعرفت الجزائر تنفيذ سياسة ''دعه يعمل دعه يمر'' بسرعة قياسية من أجل تحرير التجارة الخارجية سنوات 94 ما نجم عنه اقتصاد ''البازار'' في أسمى صوره، وبروز سلطة المال مقابل ضعف وتراجع سلطة القانون، تم بالموازاة معه تشريد 500 ألف عامل من أرباب العائلات الذين وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها في حالة عجز عن تلبية احتياجات أسرهم، واستمرار توسع دائرة التضييق والمنع في العديد من مجالات الحياة. لقد منع اعتماد أحزاب جديدة لأكثر من 10 سنوات، دون تقديم أسباب مقنعة لذلك، ومنعت الجمعيات التمثيلية الفعلية من النشاط بافتعال عوامل مختلفة ما حرم الشباب من تأطير نفسه ضمن هذه الفضاءات، ومنعت تجارة ''الشنطة'' مقابل فتح الطريق أمام تجارة ''الحاويات''، وجرّمت ''الحرفة'' وهدد فاعلوها بالسجن والغرامة، بينما أغلقت أبواب الهجرة الشرعية وتحول الحصول على ''الفيزا'' إلى مشروع كبير صعب المنال. وخرجت الهراوات لمنع الأسواق العشوائية التي كانت ملجأ للتجار الصغار بدون عنوان ولمعدومي الشهادات لكسب ''الخبزة''. وقد يقول البعض إنه من حق الدولة ممارسة هيبتها وفرض سلطان القانون، وهو أمر محبوب ومرغوب، لكن بالنسبة للمواطن البسيط القانون يطبق على الضعفاء، أما البارونات الكبار ومختلسو أموال البنوك والمؤسسات العمومية فهؤلاء في حكم ''عفا الله عما سلف''. حتى أن الذين استباحوا دم الجزائريين في العشرية الحمراء قد أفرجت عنهم السلطات دون أدنى عقاب أو حساب، ووجد سارق ''الهاتف النقال'' يدفع لوحده الفاتورة. ولسنا هنا لتبرير أعمال العنف والتخريب، وإنما نظام السببية يقول إن لكل فعل رد فعل يفوقه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وهي الصورة الجاثمة اليوم في الشارع. لقد شاهد الجيل الذي عايش حالة الطوارئ وعمره اليوم 18 سنة، كل أشكال اللاعدل واللاعقاب وكل أنواع القتل والدم والنهب، وقد تكون قد ولدت لديه العيوب العشرة، ولذلك لم يعد يثق في أي جهة ولا يؤمن سوى بالشارع لممارسة جنونه ضد الجميع: ضد الدولة ومؤسساتها وضد المستثمرين الذين لا علاقة لهم بالاستثمار، وضد الأحزاب والمنتخبين والبرلمان وضد حتى نفسه، لأنه مقتنع بأنه يصرخ أو يصمت فالنتيجة واحدة، ولذلك اختار هذا النوع من الاحتجاج.