لماذا كل هذا الجهل بالحقوق الأساسية للصحافيين؟ ولماذا كل هذا التجاهل حتى للحقوق التي كانوا يتمتعون بها من قبل والتضييق على حرية إصدار الصحف؟ لماذا تتراجع الجزائر في مجال الإعلام والاتصال في زمن يتقدم فيه الآخرون بخطوات سريعة، ومن يبطئون السير يسقطون وتدوسهم الأقدام؟ عندما قدّمت وزيرة الاتصال والثقافة المشروع التمهيدي للقانون العضوي المتعلق بالإعلام للصحافيين سنة 2002، شبّهت ذلك المشروع بهيكل عظمي لا روح فيه، ولا فائدة ترجى منه في الحياة، والإعلام شيء نابض بالحياة، متجدد في كل ثانية. وأعتقد أن المشروع المطروح الآن لا يختلف كثيرا، رغم بعض الترميمات والتحسينات المدخلة عليه. وعليه لابد من التأكيد مرّة أخرى على الأرضية التي يتوجب البناء عليها، قبل مناقشة أحكام هذا المشروع الجديد وهي: الإعلام ليس عملية صناعية مثل صناعة الأحذية ولا عملية تجارية كمن يسوّق شحنة موز، ولكنه عملية سياسية ثقافية تربوية.. أساسا، وهو إن كان ''سلطة رابعة'' كما اصطلح على تسميته منذ عقود، فهو في عصرنا يكاد يكون السلطة الأولى، وقد أكدت أحداث 11 سبتمبر، أن وسائل الإعلام كانت في الخط الأمامي ومتقدمة على البيت الأبيض والبنتاغون، مثلما هي فضائيات كثيرة متقدمة اليوم عن طابور من الدبلوماسيين، ومتقدمة أحيانا حتى عن الدولة المالكة لها وعن جميع السلطات فيها. - الصحفي ليس عاملا في شركة، ولا في مزرعة، وليس موظفا بسيطا ولا إطارا ساميا، وإنما هو إنسان يتعاطى السياسة مثلما يتعاطى الخلق الماء والهواء، وهو في هذا معرّض لكل المتاعب والاحتمالات ولكل أنواع الترهيب والترغيب، وحقوقه لا يفيها قانون الوظيف العمومي ولا قانون آخر. وفي مقدمة هذه الحقوق الأساسية والحيوية والتي تشكل أساس قانون الإعلام، حق الصحفي في الوصول إلى مصادر الخبر، وهذا الحق مستمد من حق المواطن في إعلام موضوعي ونزيه، ولا يمكن أن يتحقق، إذا لم يمكّن ويتمكّن الصحفي من الوصول إلى مصادر الخبر. لقد أصبت بخيبة أمل عندما قرأت أحكام مشروع القانون الذي أجازه مجلس الوزراء، ليحال على نواب الأمة، والذي يمكن لتلميذ شاطر صياغة أحكامه أحسن مما هي عليه في نص مهلهل لا علاقة له بلغة الضاد، ولا علاقة لمترجمه بالترجمة!وفكّرت في أن أوجّه كلمة إلى النّواب، مثلما فعلت سنة 1989 أثناء مناقشتهم لمشروع قانون الإعلام الذي أعاده الرّئيس لقراءة ثانية، بفعل الخلافات التي تفجّرت بين أقطاب المشهد السياسي والتي عصفت به ولم ير النور، ولكنني أحجمت عن ذلك لأن معظم من ينوبون عنا مطعون في شرعية تمثيلهم لنا، حتى من قبل زملائهم، فتكون كلمتي صيحة في واد لا يُسمع حتى رجع صداها. ففي الوقت الذي لم يعد فيه الصحافيون يتحدثون عن الحقوق المتعارف عليها في المواثيق الدولية والموقعة عليها الجزائر، كالحق في الوصول إلى مصادر الخبر، بل يتحدثون عن الحق في شراء المعلومات السرّية والخطيرة، التي تفضح الحكام والمؤسسات والدول مثل التي ينشرها ويكليكس، والحق في عدم إفشاء السر المهني حتى أمام القضاء. يأتي القانون العضوي للإعلام مفرغا حتى من الحقوق التي ضمنها قانون سابق عنه بعقدين، ومثقلا بالممنوعات وواضعا سيف ''الحجاج'' على العناوين الإعلامية التي بعد أن كان تعليقها مقتصرا على حالة واحدة وعلى القضاء في قانون 90/07، أضحى ممكنا في سبع حالات ومن قبل مختلف الجهات والهيئات، من السلطة إلى سلطة الضبط فالمطبعة! ومن حالات وقف الصدور، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في المادة 27 من أن عدم صدور حصيلة الحسابات السنوية يؤدي إلى وقف الصدور، وهو ما لم يعتمد حتى في قانون الحزب الواحد! فكيف تتحول مخالفة في التسيير يعاقب عليها في قانون الإجراءات الجزائية بغرامة مالية، إلى خطيئة إعلامية يعاقب عليها بوقف الصدور؟ وفي الوقت الذي كان فيه النشر حرّا ولا يخضع لرقابة سابقة، إذ أن الوصل الذي يمنحه وكيل الجمهورية هو الاعتماد في حدّ ذاته، أصبح الحصول على الاعتماد مماثلا لنفس الاعتماد الذي يمنح للأحزاب، من حيث الزمن والرفض والطعن أمام القضاء، مستجيبا بذلك للمسعى المعبّر عنه في اجتماع لمجلس الوزراء بتاريخ 02 ماي 2011، الذي تخوّفنا منه، المتمثل في ''الارتقاء بالإعلام إلى مستوى تعدديتنا السياسية''، وهو ما يعني النزول به من مستوى ''طيّابات الحمّام'' إلى مستوى ''محضيات النظام''. فقد استبدل نظام التصريح بنظام الترخيص أو الاعتماد، بمعنى أن النّشر أصبح مشروطا، وللجهة المانحة لاعتماد السلطة التقديرية في منحه من عدمه، مما يجعله يقترب من نظام الحظر، وهذا تقييد لحرية النشر والتعبير. زيادة عن ذلك تمنح مهلة سنة للحزب لعقد مؤتمره، بينما تمنح ثلاثة أشهر فقط لصدور النشريةّ! وفي الوقت الذي لا يسمح فيه لشخصية معنوية أن تملك وتراقب أو تسيّر أكثر من نشريتين، يفسح المجال للخونة والحركى في هذا القانون بإسقاط شرط ''أن لا يكون قد سبق له سلوك مضاد للوطن'' من الشروط التي يتوجب أن تتوفر في مدير النّشر، والمنصوص عليه في القانون المفعول فيه! وفي الوقت الذي ينشّط فيه كبار الصحافيين في الإعلام المكتوب أهم الحصص في الإعلام المرئي والمسموع، ويطلّون علينا من مختلف الفضائيات العربية والغربية، يأتي مشروع القانون الجديد معمما للمنع الذي كان مفروضا على صحافيي القطاع العمومي، وفوق ذلك يفرض على مسؤول النشر تبليغ سلطة الضبط كتابيا بالأسماء المستعارة للصحافيين، بعد أن كان الأمر مسألة داخلية، مقتصرا على إعلام المستعملين لأسماء مستعارة، مدير النشرية بهويتهم، قبل نشر مقالاتهم، وهو إجراء تشتمّ منه رائحة أمنية، قد تجعل سلطة الضبط سلطة انضباط! أما ''كوطة'' الصحافيين المحترفين المشابهة ''لكوطة'' النساء في مشروع قانون الأحزاب، المتمثلة في إجبار مدير نشرية عامة على توظيف الثلث منهم، فهي غير منطقية، وحتى قانون الإعلام لسنة 1989 الذي تعرض لهذا كان الثلت المقصود فيه يعني المحترفين أو حاملي شهادة جامعية، فليس من حق السّلطة أن تتدخل في نوعية العمال الذين توظفهم المؤسسات الإعلامية. فالمنافسة بين العناوين تتطلب البحث عن الكفاءات أينما كانت، مثلما هو الشأن بالنسبة للفرق الرياضية. وإذا رأى مسؤول نشرية أن الشباب المتخرج حديثا من مختلف الفروع الجامعية أحسن ممن هم في الميدان من الصحافيين المحترفين، فلماذا تفرض عليه عناصر أخرى؟وشخصيا اعتمدت في تجربتين ناجحتين على طاقم تحريري من الشباب، ويتعلق الأمر بيوميتي ''الجزائر اليوم'' المعلقة و''الشروق اليومي'' وشبابهما اليوم مسؤولين في وسائل إعلامية مكتوبة ومرئية ومسموعة وطنية وعربية. ولا أفهم لماذا تمنح مهمة إصدار البطاقة الوطنية للصحفي المحترف للجنة مجهولة، بعد أن كانت هذه المهمة منوطة بالمجلس الأعلى للإعلام، وقد سبق له أن أصدر هذه البطاقة. وأتساءل بكل براءة، لماذا ألغيت المادة 32 من قانون 90/07، التي تُوجب على الهيئة المستخدمة إخطار الجهة القضائية المختصة، وأن تمثل الطّرف المدني إذا تعرّض الصحافي المحترف أثناء مهمته لعنف أو اعتداء أو محاولة إرشاء أو ترهيب أو ضغط سافر؟وأتوقف عند هذا الحد حتى لا أكون مملا في مادة دسمة وثقيلة الهضم لأعود إلى الموضوع لاحقا فيما يتعلق ببعض الحريات المسلوبة والحقوق المنهوبة، وسلطة ضبط الصحافة المكتوبة. [email protected]