بين ''تحذيرات'' صندوق النقد الدولي من ارتفاع النفقات جراء الزيادة في الأجور، وبين غليان الشارع الذي تلجأ إليه يوميا النقابات والمنظمات المهنية للمطالبة ب''المزيد''، تجد السلطات العمومية نفسها تواجه مشاكل تتدحرج مثل كرة الثلج التي تزداد حجما من يوم لآخر. والغريب في المعادلة أن لا الموظفين مقتنعون بمبررات الحكومة في مسك يدها ولا الحكومة خرجت للشفافية وقطعت الشك باليقين. ورغم أن ملف الأجور يحتاج إلى نقاش وطني حرّ ونزيه، إلا أنه لا يراد له ذلك، اعتقادا بأنه سيفتح أبواب جهنم على السلطة. شكاوى في كل القطاعات والرواتب في صدارة المطالب الحكومة تتحجج برفع الأجور ولا تتكلم عن القدرة الشرائية رغم أن الحد الأدنى للأجر الوطني المضمون أو دخل الفرد الجزائري، يفوق بكثير ما هو موجود في تونس أو المغرب، إلا أن القدرة الشرائية ومستوى المعيشة في دول الجوار أفضل مما هي عليه في الجزائر. جاء في تقرير اقتصادي عن معهد الإحصاءات التابع للبنك الدولي، أن مستوى دخل الفرد الجزائري يقدر ب4400 دولار، بينما في تونس لا يزيد على 3480 دولار ولا يتجاوز في المغرب 2850 دولار. كما أن الحد الأدنى للأجر في الجزائر والمقدر ب243 دولار، يفوق ما هو مطبق في تونس 151 دولار، وكذلك في المغرب 223 دولار. غير أنه رغم تفوق الفرد الجزائري عن نظيره في تونس والمغرب وحتى في الأردن 3700 وفي سوريا 2410، وفي مصر، حيث يصل دخل الفرد هناك 2410، إلا أن ذلك لا ينعكس على مستوى المعيشة وعلى القدرة الشرائية للجزائريين التي توصف ب''المتدنية''. ويعود هذا الأمر إلى أن الحديث الطاغي في الجزائر، يقتصر على الأجور ولا يتم الحديث أو النقاش عن ''القدرة الشرائية''، وهي الحلقة الأساسية الغائبة أو المغيبة في أجندة السلطات العمومية. فما قيمة رفع الأجور إذا كانت الزيادات يلتهمها التضخم والالتهاب في الأسعار التي لا تخضع لأي مقاييس اقتصادية أو رقابية؟ بل ما فائدتها إذا كانت القدرة الشرائية للدينار الجزائري ضعيفة وتكاد تكون عملة ''القردة''؟ إن الحديث عن القدرة الشرائية يقتضي بالضرورة التوصل إلى معرفة الكيفية التي تحدد بها الأسعار وكذا المسار الذي تأخذه السلعة المنتجة عندما تخرج من المزرعة أو المصنع إلى غاية وصولها إلى المستهلك. هل هناك في الجزائر من يعرف عدد ''الوسطاء'' الذين يحتكرون وتمر عبرهم السلع والمنتجات؟ وكم هي الزيادة في السعر التي يفرضها المضاربون منذ إنتاجها إلى غاية وصولها إلى السوق؟ ولماذا تعدّ الجزائر البلد الوحيد الذي ترفع فيه أسعار المواد الاستهلاكية بحجة ارتفاعها في البورصات العالمية، لكن لا يستفيد الجزائريون من الانخفاض عندما تسقط سقوطا حرا، وهو الدور المنوط بالحكومة؟ كما أن موضوع التحويلات الاجتماعية، هو الآخر بحاجة إلى شفافية، فأرقام الحكومة في قوانين المالية، تشير إلى أن كل مواطن جزائري يحصل على ما مقداره 10 ملايين سنتيم، تخص ما يسمى ''دعم المواد الاستهلاكية''، غير أن الحقيقة أن أصحاب الأجور العالية والأغنياء، هم المستفيدون الأوائل منها. هذه الاختلالات في المنظومة الاقتصادية وراء بقاء الأجور زهيدة مهما ارتفعت، والقدرة الشرائية متدنية مهما نفخت. هل ما زال الملف في خانة ''الطابوهات''؟ بن أشنهو وعد النواب بندوة وطنية حول الأجور لكنه رحل دونها ظل ملف الأجور في الجزائر مصدر جدل سياسي ساخن، سواء داخل الحكومة أو في البرلمان أو وسط الطبقة الحزبية والنقابية، ولكن مع ذلك ظلت الحكومات المتعاقبة تتحاشى فتح هذا الملف بكل أبعاده وكأنه من ''الطابوهات'' إلى درجة أن وزير المالية الأسبق عبد اللطيف بن أشنهو، قال للنواب في 2000 في شكل تحدٍ إنه ''مستعد'' لمناقشة الملف في ندوة وطنية، لكنه رحل دون رجعة. اعترف الوزير الأول أحمد أويحيى، عقب اجتماع الثلاثية، أن القدرة الشرائية للجزائريين ضعيفة، واعترف بما هو أخطر من ذلك، وهو أن الزيادات في الأجور مهما كانت كبيرة ستبقى دون المستوى، لكن مع ذلك لا الحكومة استطاعت أن تجد ''الحل'' لشكاوى العمال والموظفين الذين نظموا أزيد من 150 احتجاج في سبتمبر الماضي، بسبب الأجور والعلاوات، ولا النقابات على اختلافها، بإمكانها التوقف عن المطالبة ''هل من مزيد''، وهي تسمع الحديث عن احتياطات الصرف وعن ''البحبوحة'' المالية للبلد. أسئلة كثيرة تطرح ولا تجد أجوبة عنها، ومن ذلك على أي أساس تحسب رواتب الوزراء والنواب والرؤساء والجنرالات؟ وعلى أي معيار تم اعتماد شبكة الأجور للموظفين الصغار والكبار؟ وذلك على اعتبار أن الحد الأدنى للأجر الوطني المضمون الذي يضمن الحد الأدنى للعيش الكريم، لم يعد له أي معنى بعدما أثبتت دراسة ميدانية قامت بها أقدم نقابة في البلاد حول ميزانية الأسرة الجزائرية، أن الأجر الأدنى للعيش في الجزائر لا يجب أن يقل عن 35 ألف دينار، بدليل أن الخبير الاقتصادي ووزير المالية الأسبق عبداللطيف بن اشنهو، اعترف بأنه يجب أن يكون لكل عائلة جزائرية 3 مداخيل على الأقل، لمواجهة متطلبات المعيشة. الحكومة لها مبرراتها لأنها ترى أن المصدر الوحيد للتمويل، هو مداخيل النفط والغاز، وأن الجباية العادية التي من المفروض أن تسد ميزانية التسيير لا تغطي، حسب وزير المالية كريم جودي، سوى أقل من نصف كتلة الأجور المدفوعة للموظفين. لكن هل يكفي أن تقول الحكومة أو تشتكي من شحّ الموارد المالية لإسكات أصوات المطالبين بالزيادة في الأجور؟ لقد طرحت في الثلاثية الأخيرة قضية تخفيض الضريبة على الدخل، باعتبارها وسيلة لتحسين القدرة الشرائية بصفة غير مباشرة، لكن الحكومة رفضت بحجة أن تلك الموارد الضريبية تستعمل في دعم بعض المواد الاستهلاكية التي يستفيد منها الغني والفقير على حد سواء، وهو وضع غير صحيح ولا سليم اقتصاديا. إن طريقة تسيير ملف الأجور التي لا تستند إلى أي معيار اقتصادي مرتبط بالإنتاجية والمردودية والتضخم، وراء حالة ''التشاحن'' التي تعيشها قطاعات النشاط الاقتصادي التي يريد كل منها أن تكون رواتبه أفضل من الآخرين، وهي فتنة تسير بطريقة كرة الثلج، إن لم يتم تداركها ستعصف بالدولة ككل. إن تنظيم ندوة وطنية حول ملف الأجور، تكشف فيها بكل شفافية، كل كبيرة وصغيرة، ليس ضرورة فحسب، بل قضية استقرار وأمن الدولة. على النقيض رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية والمالية بمجلس الأمة قادة بن عودة ''مجبرون على اعتماد نظام الأجور المعمول به في الدول المتقدمة'' يعتقد رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية والمالية بمجلس الأمة، قادة بن عودة، أنه من الضروري وضع منظومة وطنية شفافة للأجور. هل ترى أن الأجور المدفوعة للعمال والموظفين مبنية على معطيات اقتصادية بحتة أم تحكمها عوامل سياسية؟ تخضع زيادة الأجور لاعتبارات سياسية واقتصادية، فالحكومة مطالبة بالانسجام مع تطلعات الشعب بما في ذلك مراجعة نظام الأجور، والزيادات الأخيرة منطقية وليست لها علاقة بما يتردد من خوف السلطات من انتقال ما يسمي بالربيع العربي إلى الجزائر، لأن نظام الأجور السابق لم يعد متوافقا مع ارتفاع وغلاء المنتجات والخدمات في بلادنا وفي الخارج. فكراء مسكن لائق كان، قبل سنوات، بسعر مقبول، أما اليوم فهو يساوي ضعف الأجر القاعدي الخام، ثم هل تتصورون طبيبا عاما لا يتجاوز أجره 30 ألف دينار. وإني أتساءل أنتم معشر الصحفيين هل تكفيكم أجوركم الحالية؟ لا أعتقد ذلك. نسجل احتجاجات يومية للنقابات لمراجعة الأجور، ألا ترى أن ذلك يفرض إعادة النظر في كامل المنظومة التي تحكم هذا الملف؟ الزيادات ساهمت في رفع المستوى المعيشي للموظفين والعاملين وبعض المنتجين في القطاع الفلاحي مثلا، لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، ونحن مرغمون فعلا على العمل بمعايير ومقاييس في نظام الأجور مثلما هو معمول به في الدول المتقدمة، حيث تربط الزيادة بمعدل التضخم ومستوى النمو والإنتاج. ومن الضروري تنشيط السوق المالية لتمكين المستفيدين من الزيادات من توظيف أموالهم في شراء أسهم أو عمليات الادخار والاستثمار البنكي. وهناك حاجة لإضفاء شفافية أكبر وتعزيز الشعور بالعدالة الاجتماعية. نلاحظ اكتفاء البرلمان عند مناقشة لجنة المالية بتسجيل الارتفاع في ميزانية التسيير كل سنة، جراء ارتفاع كتلة الأجور، دون أن يفتح البرلمان ملف القدرة الشرائية. لماذا لا تنظم ندوة وطنية حول حقيقة الأجور في الجزائر، أو تقدمونها في توصيات اللجنة؟ ملف الأجور ليس من صلاحيات البرلمان، ويعني الحكومة والشركاء الاجتماعيين، وعلى مستوانا في مجلس الأمة لا نملك أي صلاحية لتعديل قوانين المالية، ونكتفي بإصدار توصيات غير ملزمة. وإقامة ندوة حول الأجور فكرة جيدة، شرط أن لا يكون تنظيمها مرتبطا بالاحتجاجات وبعيدا عن المزايدات. حوار: جمال. ف الاقتصادي محمد بهلول ل''الخبر'' ''الحكومة تلعب دور ''رجل مطافئ'' وتغيّب منطق الحساب الاقتصادي'' أكد الخبير الاقتصادي، مدير معهد الموارد البشرية، محمد بهلول، أن الحكومة حاليا تلعب دور رجل مطافئ، في ظل منطق المساومات الذي رضخت إليه، باعتماد زيادات في الأجور لا تتوقف على المعايير الاقتصادية العامة لتحديد الأجور، بقدر ما ترضخ لضغوط وحسابات سياسية. وأوضح الخبير الاقتصادي في تصريح ل''الخبر''، بأن هناك فوضى تسود عمليات وكيفيات تحديد الزيادات في الأجور، التي تختلف من قطاع إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، حيث لا تعتمد على المعايير الاقتصادية، ما تسبب في وجود فروقات في الزيادات المعتمدة والطرق المستعملة. وصرح نفس الخبير بأن الدولة أصبحت في موقع ضعف بالنسبة للاحتجاجات السائدة، حيث يريد كل أجير زيادة تضاهي نظيره في قطاعات أخرى، مشيرا إلى أنها وجدت نفسها مضطرة للرضوخ إلى متطلبات جميع العمال خوفا من احتجاجات الشارع. وبالنسبة لمحمد بهلول، فإنه يمكن إلى غاية الآن استنتاج ملاحظتين في الطرق المعتمدة في زيادات الأجور، الأولى توضح بأن الزيادات مست القطاعات الإدارية بصفة كبيرة مقارنة بالقطاعات السلعية، ما يجعل هذه الزيادات بعيدة عن ما يسمى ''الفعالية الاقتصادية''. أما الملاحظة الثانية، فتؤكد أن منطق الاقتصاد الريعي وتوزيعه هو الذي يطبع الزيادات الأخيرة للأجور. في هذا الإطار، قال الخبير نفسه إنه في كل مرة يتم فيها تسجيل عائدات بترولية هامة، فإن كل واحد يريد أخذ نصيبه من هذا الريع، ما يضع الحكومة في موقع يغيب فيه جوهر العقلانية الاقتصادية. وفي نفس السياق، أشار مدير معهد الموارد البشرية، إلى أن الزيادات الأخيرة لم يتم إعدادها بالارتكاز على حسابات اقتصادية وإنما على حسابات سياسية. من جهة أخرى، أوضح الخبير بأن الوضع سيكون كارثيا في حالة تراجع أسعار البترول خلال السنوات المقبلة، حيث لن تستطيع الحكومة مواجهة الأزمات التي ستعترضها نتيجة العجز في تغطية نفقاتها العمومية. وفي الإطار نفسه، أكد المتحدث أن الحكومة لا يمكن لها أن تستمر في التسيير عن طريق موارد ميزانيتها فقط، المرتكزة أساسا على الريع البترولي، وإنما يجب أن تفكر في الانتقال إلى التسيير عن طريق موارد السوق.