لم نكن نتوقع أن زيارتنا لمدينة قم الإيرانية ستقودنا إلى اكتشاف أحد الكنوز، الذي يعتبر تراثا إسلاميا وإنسانيا عالميا.. مكتبة تحتوي على أكثر من 35 ألف كتاب مخطوط، تجمع أنفس وأقدم العلوم الإسلامية والإنسانية، في مقدمتها نسخة من القرآن الكريم، يعود تاريخها إلى 1300 سنة ونسخة أخرى من الكتاب المنزل على النبي داوود عليه السلام، يعود أصلها إلى 8 آلاف عام. اقشعر بدني حينما تمكنت من رؤية أقدم نسخة من القرآن الكريم موضوعة بعناية في أول الرفوف تحت غطاء زجاجي، في ثالث أكبر مكتبة مخطوطات بالعالم الإسلامي، فهي مدونة فوق جلد الماعز على طريقة الكتابة الأولى للمصحف دون نقاط ولا تنوين، تساءلت في نفسي، كيف لهذا المصحف أن يصمد طيلة هذه القرون، ولكنني استحضرت الآية الكريمة التي تقول ''إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون''، وشد انتباهي أن المكتبة تحتوي على جميع أنواع المصاحف سواء المكتوبة على الجلود أو على الورق، ومصاحف أخرى أبدع المسلمون الأوائل في كتابتها وتزيينها بماء الذهب، وبأروع الخطوط كالخط الكوفي وخط النسخ والمغربي والثلث المحقق والثلث الريحان، خلال القرن التاسع الهجري. كما اطلعنا على مصاحف أخرى خطّها مسلمو آسيا مكتوبة بالخط البهاري والتيموري، إضافة إلى نسخ أخرى صغيرة وعجيبة، هي عبارة عن أوراق صغيرة يبلغ طولها أربعة أمتار، تلف على شكل أسطوانة تحمل سور القرآن كاملا، كتبت بشعرة الحصان بشكل دقيق، حيث كان الحجيج والمسافرون يضعونها فوق عمامتهم خلال القرنين التاسع والعاشر الهجري، بالإضافة إلى مصاحف أخرى متعددة الأشكال وبروايات متعددة، وكذا مخطوطات بمختلف لغات الشرق الأوسط وآسيا وجزء من أوروبا، ومنها كتب دينية فارسية مكتوبة بأظافر اليد. قبل إتمام تصفح الجانب الأيمن من المكتبة، استوقفنا مدير العلاقات العامة بالمكتبة، السيد محمد حسين أوسطي، وشد أبصارنا إلى كتاب ضخم يبلغ طوله حوالي 90 سنتمترا وعرضه حوالي 40 سنتمترا، مغلف بجلد سميك، وقبل أن يكشف لنا عن محتواه، سألنا هل عرفناه، فأجبنا بجهلنا إياه، فصمت وتلا الآية الكريمة من القرآن الكريم ''ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون''، حينئذ، عرفنا أنه الكتاب السماوي الذي نزل على النبي داوود عليه السلام، حيث قال محدثنا إن هذه النسخة هي الأقدم في العالم، يعود تاريخها إلى ثمانية آلاف عام، وحفظت عبر القرون بعدما كتبت على جلد الماعز، وعجبت حينما أكد السيد أوسطي أن هذه النسخة طالها تحريف بني إسرائيل، ما عدا الآية التي جاء بها القرآن الكريم ''ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون''، فهي موجودة في هذه النسخة لم تمسسها أيادي المحرفين، بل بقيت لتعجز من يأتي من بعد، لتشهد على صدق الوحي الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم المتمم للرسالات السماوية. ومن العجائب أن المكتبة لم تجمعها دولة، بل جمعها شخص واحد وهو الإمام المرحوم مرعشي نجفي الذي انتبه إلى البعثات الإنجليزية التي كانت تشتري الكتب والمخطوطات القديمة للمسلمين، فقام بجمعها ووضعها في مكتبة قم، وهي المكتبة التي حظيت بعناية فائقة من طرف الحكومة الإيرانية، حيث جهزت بنظام حماية شبيه بالبنوك والخزائن ووضعت داخل مبنى مصمم لتحمّل زلزال بقوة سبع درجات على سلم رشتر، كما زودت بمخبر عصري وخبراء في علاج الكتب والقضاء على الفطريات، إضافة إلى ترميم الصفحات المتآكلة بما في ذلك إعادة تزيينها بماء الذهب، كما يسهر فريق غرافيك على نسخ جميع الكتب بواسطة أحدث الوسائل التكنولوجية. تعتبر المكتبة من الكنوز الإسلامية النادرة، فهي تحتوي على 65 بالمائة من المخطوطات الدينية للمذهبين السني والشيعي و35 بالمائة من المخطوطات الخاصة بعلوم الفلك والطب والهندسة والرياضيات وكافة العلوم التي ازدهرت خلال عصر النهضة الإسلامية، قبل 700 سنة.