صعب علينا تجنّب الخوض في حديث السياسة أثناء زيارتنا للكاتب والصحفي محمد عباس، فالرجل عايش مراحل مهمّة في تاريخ البلاد. عمل صحفيا، ثم مراسلا حربيا في حرب أكتوبر، واهتم بالكتابة التاريخية، من منظور مختلف جعله يجمع شهادات الفاعلين الذين تعرضوا للتهميش، نظرا لاختلافهم سياسيا مع رموز السلطة. تعرّف عن قرب على شخصيات صنعت تاريخ الثورة، وكان من القلائل الذين حاوروا محمد بوضياف، ووقفوا ضد محاولات إعادة النظر في التاريخ من زاوية ما يسمى اليوم ''المراجعاتية''. جنّبني الأستاذ عباس مظاهر البرتوكولات التي تُرافق زيارة الشخصيات المهمة، كالانتظار في الصالون قبل أن يأتي من تريد مقابلته، وتزجية الوقت في مشاهدة الصور المعلّقة على الجدران، أو أن تستقبل من قبل أشخاص يوصلونك إلى من تريد زيارته، وغيرها من المظاهر التي ترافق العمل الصحفي. مع محمد عباس، تمّ كل شيء من دون أي إجراءات. انتظرَنا شخصيا عند مدخل العمارة التي يسكن بها بحي راق في حيدرة. صعدنا الطابق الأول، ودخلنا صالونا واسعا، جلسنا جهة اليمين، وبدأ الحديث مباشرة عن طفولته القاسية التي قضاها في قرية تسمى ''داغوسة''. فهو ابن فلاح كان يعمل بالسهل الشرقي لعنابة، لذلك تأخّر تعليمه بسبب عزلة ''داغوسة''، وبُعدها عن قرية ''البسباس''، أين كانت توجد مدرسة فرنسية. تأخّر تعليم محمد عباس كثيرا، بسبب ظروف الحرب، ولم يكن من نصيبه إلا بعض التعليم المتقطّع في عنابة بين الثورة والاستقلال. لذلك لم يحصل على الشهادة الابتدائية إلا في سنة 1963، وكان عمره آنذاك 18 عاما. وفي عام 1965 تحصّل على شهادة الأهلية، وتقدّم لمسابقة دخول الجامعة سنة 1967. درس محمد عباس في المدرسة العليا للصحافة. حمله شغفه بالأدب لمهنة المتاعب، حيث قال: ''كانت الكتب تأتينا من تونس، ومن المشرق العربي بكثرة، بالأخص الكتب الأدبية. كنا نقرأ مجلة ''الآداب''، التي كان يصدرها الدكتور سهيل إدريس، وفيها كنا نجد أشعار كتاب جزائريين''. الصراع بين القديم والحديث بأسبوعية ''المجاهد'' ظروف الشغل المتوفّرة مطلع الستينيات مكّنته من دخول عالم الصحافة بسهولة. وكان فايد أحمد قد قرّر سنة 1968 إعادة إصدار جريدة ''المجاهد'' وإعطاء نفس جديد للإعلام الحزبي. قادته الظروف للعمل كمصحّح في جريدة ''المجاهد'' الأسبوعية، التي كان يديرها الأستاذ محمد الميلي، والذي كان يشغل منصب مدير المدرسة العليا للصحافة في نفس الوقت. ويروي عباس: ''كنا على علاقة طيبة مع زينب الميلي زوجة الأستاذ الميلي، نظرا لانشغالاتنا الأدبية المشتركة. ولكونها كانت تدرس معنا في مدرسة الصحافة سهّلت لنا عملية التوظيف في ''المجاهد''. تحوّل محمد عباس إلى العمل الصحفي بسرعة، وترك وظيفة التصحيح. وفي هذه المرحلة بالذات بدأ بروز ظاهرة الصراع بين الجديد والقديم في مجال الصحافة الجزائرية، وقال عباس بخصوص هذه المسألة: ''نحن الجيل الجديد درسنا الصحافة في مدرسة حديثة، قياسا بالطلبة القدامى. وقد أفادنا الأساتذة المصريون كثيرا في تعلّم تقنيات حديثة للكتابة الصحفية التي كان يطغى عليها الأسلوب الأدبي''. وأضاف: ''لم أكن مرتاحا آنذاك، لأن الجيل الذي سبقنا كان يفضّل ممارسة التوجيه أكثر من انشغاله بالإعلام. فكان المدير مثلا يكتب افتتاحياته من وحي خطاب الرئيس بومدين. وهذا لم يكن يرضينا نحن صحافيي الجيل الجديد، فقد اكتسبنا نوعا من التمرّد على السلوكيات القديمة''. وأضاف عباس أن هذا الصراع بين الجيلين كان، في الأصل، يعبّر عن صراع بين الصحفي المحترف الذي درس في الجامعة، والصحفي المناضل الذي برز إبان الحركة الوطنية وحرب التحرير. غضبُ محي الدين عميمور.. وتفهّمُ الدكتور طالب وبن يحيى وبالموازاة مع العمل الصحفي، اهتم عباس بالكتابة الأدبية، فألّف ونشر عدّة قصص قصيرة من وحي الواقع الجزائري لما بعد الثورة. لكن انشغالاته الصحفية، وكثرة تنقّلاته، حالت دون الاستمرار في الكتابة الأدبية، مبقيا على القراءة. وقادته هذه التنقلات، في مهام صحفية عديدة، حيث عمل كمراسل حربي خلال حرب أكتوبر ضد إسرائيل، ثمّ رافق الرئيس هواري بومدين في جولة الصمود سنة 1978. ويروي عباس أنه كان يقترب كثيرا من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، ومحمد الصديق بن يحيى، وكانا يمدّانه بالمعلومات والأخبار التي تمكّنه من كتابة تحاليل صحفية، بحكم أن جريدة ''المجاهد'' بالعربية كانت أسبوعية، وليست يومية. وكشف عباس: ''لمّا عرف الدكتور عميمور بأمر المساعدات التي كان يقدّمها لي الدكتور طالب والمرحوم بن يحيى انزعج كثيرا، ولم يعجبه الأمر، إذ لم يكن يدرك أن الصحفي العامل في جريدة أسبوعية لا يكتفي بتلك التقارير اليومية العادية''. واستمر تفهّم بن يحيى لمحمد عباس حتى خلال أشغال مؤتمر عدم الانحياز، الذي نظم في الجزائر، فقد قدّم له وثائق سريّة قبل المصادقة عليها، واعتمد عليها لكتابة مقالات تحليلية نُشرت بالمجاهد الأسبوعي. وأضاف عباس: ''لم تكن السلطة تتّخذ الصحافة كمصدر للمعلومات في تلك الفترة. فرئيس الحكومة مثلا كان يعتمد على صحفي واحد. وكذلك رئيس الجمهورية كان له مستشار إعلامي واحد، بينما رئيس الحكومة في فرنسا مثلا كان يعتمد على مكتب صحفي يوجد به أكثر من مائة صحفي''. انتقل محمد عباس إلى جريدة ''الشعب'' في جانفي 1977، وعمل مع محمد السعيد، وزير الاتصال الحالي. فعُيّن في منصب نائب رئيس التحرير، مكلّف بالشؤون الوطنية. كان يحمل معه بداية تجربة في كتابة تاريخ الحركة الوطنية وحرب التحرير، شرع فيها في منتصف السبعينات. ففي عام 1975 أجرى تحقيقا صحفيا في بشار حول الشهيد العقيد لطفي، فتوغّل في عمق الصحراء لتسجيل الشهادات. وفي تلك الفترة تكوّنت لديه القناعة التالية: ''اكتساب رأي مستقل والاهتمام بالجانب المعلوماتي''. حواراتٌ تُنشر وأخرى تتعرّض للرقابة بعد أن ترك رئاسة تحرير ''الشعب''، سنة 1984، اهتم محمد عباس بتسجيل شهادات الفاعلين التاريخيين، فبدأ بسعد دحلب، الذي شغل منصب وزير الشؤون الخارجية في الحكومة المؤقّتة، وكان أحد المفاوضين المهمّين خلال اتفاقيات إيفيان. ثمّ سجّل شهادة أحمد بودة وحسين لحول وسيد علي عبد الحميد، وهم من أبرز مناضلي حزب الشعب. أجرى عباس هذه الحوارات في الوقت الذي بدأ النظام يشرع بفتح المجال أمام حرية التعبير وكتابة التاريخ بطريقة مختلفة. ورغم ذلك الانفتاح، الذي شرع فيه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، إلا أن بعض الحوارات التي أجراها محمد عباس لم تُنشر، على غرار حواره مع بن يوسف بن خدة، ثاني رئيس للحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية. وقال عن ذلك: ''ومن غرائب تلك المرحلة أن صحفيا من أسبوعية ''الجزائر الأحداث''، الصادرة بالفرنسية، واسمه لطفي محرزي، أجرى لقاءً مع الجنرال بيجار، فختم لقاءه بالعبارات التالية: ''شكرا سيدي الجنرال لأنّك ساهمت في كتابة تاريخ بلادي''. ونُشر الحوار، ولم يتعرّض لمقص الرقابة. وقيل إنه نُشر بإيعاز من شخصيات نافذة في السلطة آنذاك. فنظّم اتحاد الصحفيين الجزائريين، وكنت رئيسا لأمانته العامة منذ سنة 1982، ندوة في اتحاد الكتاب استنكرنا هذا التصرّف، وقلت، شخصيا، إن ''كتابة تاريخ الثورة لا يجب أن تبدأ مع بيجار، بل بحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف''. تكوّنت لدى محمد عباس آنذاك كثير من الأفكار التي كانت تريد التأسيس لمدرسة جزائرية لكتابة تاريخ الحركة الوطنية وحرب التحرير، فاهتم بجمع الروايات وكتابتها، ومن هنا جاء حواره مع محمد بوضياف سنة 1988. وكان عباس قد طلب من بوضياف إجراء حوار معه سنة 1984، لكن تأخّر الرد الإيجابي ولم يصل إلا بعد أربع سنوات، وبالضبط عقب أحداث أكتوبر. لم يغادر محمد عباس جريدة ''الشعب'' بعدما جرت أحداث أكتوبر، وهي السنة التي شهدت التمرّد على محمد العربي الزبيري، المقرّب من محمد الشريف مساعدية، والذي أقنع الرجل الأول في الحزب، في وقت سابق (سنة 1985)، بوضع كل الاتحادات المهنية في اتحاد واحد. اقترحتُ تعدّدية حزبية تستمد مرجعيتها من الإرث التاريخي وبخصوص أفكاره حول التعدّدية الحزبية التي ظهرت عقب أحداث أكتوبر، قال عباس: ''كتبتُ عن تعدّدية تستمد مرجعيتها من التاريخ، فاقترحتُ إنشاء حزب وطني، وآخر إصلاحي، وثالث يساري، وحزب بربيريست، إضافة إلى اعتماد الأحزاب التي كانت تنشط في السرية، على غرار الأفافاس وحزب محمد بوضياف وحركة أحمد بن بلة''. وعن سؤال حول طبيعة ومواقف الحركة الإسلامية، التي بدأت تظهر في تلك الفترة، أجاب محمد عباس: ''الغريب أن الشيخ سحنون طلب إنشاء جمعية، فطلبوا منه أن يؤسّس حزبا سياسيا''. وفي هذه الظروف، أسّس عباس، رفقة عدد من الصحافيين، يومية ''السلام''، وظهرت سنة 1990. وقال: ''كنّا حينها مع الشرعية التي كان يمثّلها الرئيس بن جديد''. إلا أن عباس أبدى آنذاك تخوّفات من صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكن السلطة، وعلى لسان الرئيس الشاذلي، طمأنت الجميع، وكانت تعدّ لسيناريو مغاير. وفي خضم انطلاق التجربة الديمقراطية، يذكر محمد عباس أنه بقي على صلة مع محمد بوضياف، فشرع بحملة وطنية لتنظيم عودته إلى الوطن، كما عاد آيت أحمد وأحمد بن بلة فيما سبق. فقام بزيارته في بيته في القنيطرة بالمغرب سنة 1991، وقال بشأن هذه الزيارة: ''فهمت أنه يريد العودة، لكن ليس وفق الطريقة التي كنّا نريدها نحن، أي بواسطة تنظيم من قبل المجتمع المدني. وأذكر أنه قال لي: ''لا أريد تعميق الأزمة، ثمّ أعرف أنهم لن يتركوني أتكلّم بحريّة''. ولمّا عاد بوضياف، بعد استقالة الرئيس بن جديد، اتّصل بمحمد عباس، بعد خمسة أيام من مجيئه، وكنتُ رفقة حايا جلول، الذي استضافه في حصة تاريخية بثّها التلفزيون الجزائري. وشهدت سنة 1991 شروع محمد عباس في التأليف، فنشر أول كتاب له بعنوان ''ثوار عظماء''، ثم نشر كتابا ثانيا بعنوان ''روّاد الوطنية''، ثم ''الاندماجيون الجدد''، الذي تضمّن مجموعة مقالات لم تنشر في جريدة ''الشعب''. وبخصوص هذا الكتاب بالذات، قال عباس: ''تحدّثت عن التناقضات التي لم تُولِ لها السلطة والنخب الوطنية أي اهتمام، رغم أهميتها، بل وخطورتها، وأقصد ظاهرة الاستعمار الجديد، الذي اعتقدنا أنه انتهى سنة 1962. وقلت إن الإيديولوجية الاستعمارية ما يزال لها وجود في الجزائر، وهي تعمل لدحض الإيديولوجية الوطنية''. وعن رأيه في الرئيس بومدين، قال محدّثنا: ''أعتقد أنّني أمثّل فكرا أوسع من الرئيس بومدين. شخصيا فضّلت تبنّي طرح حزب الشعب الجزائري، وهو طرح تقدّمي عمّالي. وأختلف مع بومدين، الذي لا يملك طرحا ناضجا، بخصوص هذه المسألة بالذات. كان بومدين اشتراكيا رومانسيا. لكنني أتّفق معه في خيار التصنيع، بحكم أنه هو الذي يربطنا بالعصر''. وعن مرحلة الشاذلي بن جديد، قال: ''كان من المفروض أن تكون مرحلة الشاذلي بن جديد مرحلة انتقالية من خمس سنوات، لكنّها دامت طويلا، وهذا هو عين العبث''. تقاعد محمد عباس سنة 1998، حمله إلى عالم الكتابة والتأليف، مازال مصرّا على جمع شهادات الفاعلين التاريخيين، وأصبح يفكّر، في السنوات الأخيرة، بالشروع في كتابة مذكّراته. غادرناه بعد الانتهاء من الحوار، وأعيننا معلّقة على بيانو جميل.