أعادت حادثة اغتيال الناشطات الكرديات، في قلب العاصمة باريس، الحديث عن الاغتيالات السياسية، حيث اتّضح أن عملية التصفية التي تعرّضت لها المناضلات الكرديات تمّت بطريقة محترفة، لم تدع المجال للشكّ في كون جهات منظّمة وراء الاغتيال. الأمر الذي أعاد إلى الأذهان سلسلة من الاغتيالات السياسية التي شهدتها الأراضي الفرنسية، على مدار العقود الماضية. والحال أن فرنسا شهدت، على مدار تاريخها الحديث، عددا مهمّا من الاغتيالات التي طالت رموزا يراها البعض مناضلة، فيما تعتبرها العديد من الأنظمة أعداء وجب تصفيتها. ولعلّ أشهر شخصية تعرّضت للاغتيال، أو لنقل الاختفاء، المعارض المغربي المهدي بن بركة، العملية التي ما تزال تفاصيلها تشغل أذهان الباحثين والمؤرّخين، على اعتبار أن مصيره ظلّ مجهولا، ولم يُعرف له قبر إلى يومنا هذا. على أن الحقيقة الوحيدة الأكيدة هي أن آخر مرّة شوهد فيها كانت في منطقة فونتني لو فيكونت شمالي فرنسا. والمثير أن قضية اختفاء المعارض المغربي قد تكون الوحيدة التي ساهمت السلطات الفرنسية في جانب منها، على اعتبار أن الشرطة الفرنسية هي من كان وراء تسليم بن بركة لمسؤولين من المخابرات المغربية انتقلوا، خصيصا، لباريس، للتحقيق مع بن بركة، ليغيب عن الأنظار بعد ذلك، حسب شهادات الشرطة الفرنسية، لتبقى هذه الرواية الوحيدة المعروفة عن اختفاء المعارض المغربي. المثير في قصّة الاغتيالات السياسية في فرنسا أنها عرفت فترة تصاعدية شكّلت سنوات السبعينيات الذروة، حيث تكرّرت الاغتيالات. ويرى المراقبون أن الدولة الفرنسية دفعت ضريبة قناعاتها بحقوق الإنسان، وضرورة منح حقّ اللجوء السياسي لكل من يتهدّده خطر في بلاده بسبب مواقفه السياسية، فجدير بالذكر أن العديد من التيارات السياسية المعارضة وجدت لها ملاذا في باريس، خاصة وأن الدولة الفرنسية كانت تمنح بعض الامتيازات المادية لكلّ من يحصل على حقّ اللجوء السياسي، ومن بينها ضمان الإقامة، الأمر الذي جعلها وجهة مفضّلة لكل المعارضين السياسيين من مختلف بقاع الأرض، وخاصة من منطقة الشرق الأوسط التي كانت تشهد مخاضا سياسيا، على غرار سوريا وإيران، وغيرها من دول المنطقة التي عرفت انقلابات عسكرية. ولعلّ هذه السياسة المنتهجة لصالح اللاجئين السياسيين جعلت المخابرات السرّية لعدد من الدول تقرّر تقفّي آثار المعارضين في مكان تواجدهم بغية التخلّص منهم، مثلما حدث مع الموساد الإسرائيلي، الذي نجح في تنفيذ عدد لا يُستهان به من التصفيات الجسدية لإطارات في منظّمات تحرير فلسطين، كانت الدولة العبرية تعتبر أنهم يهدّدون مصالحها وأمنها. تماما كما شهدت باريس سلسلة من المتابعات التي انتهت باغتيال شخصيات إيرانية، على غرار اغتيال كل من رضا مظلومان، نائب رئيس الوزراء الإيراني في عهد الشاه، في منزله بباريس سنة 1996 وشابور بختيار، آخر رئيس وزراء في إيران في عهد الشاه، والذي تمّ اغتياله بباريس سنة 1991. الباحث بمعهد الدراسات السياسية بباريس أولفييه برنار ل''الخبر'' ''تاريخ الاغتيالات السياسية يظلّ غامضا لأنه مرتبط بمصالح عليا للدول'' أعاد اغتيال الناشطات الكرديات في قلب باريس الحديث عن الاغتيالات السياسية في فرنسا، هل تعتقدون أن ذلك سببه تساهل السلطات الفرنسية في الجانب الأمني؟ هذا تفسير يبدو لي أنه يسعى لاختصار الطريق. الاغتيالات السياسية ليست أمرا حكرا على فرنسا، وتحدث في أكبر الدول وأكثرها اعتمادا على المؤسسات الأمنية. ما يجب أن ندركه أن مسألة الاغتيالات السياسية في الغالب ما تكون غاية في التعقيد، لأنها مرتبطة بأشخاص لهم علاقات سرّية وأخرى ظاهرة، وفي كثير من الأحيان تكون الاغتيالات نابعة من محيط الأشخاص المستهدفين أنفسهم، مثل مسألة اغتيال الناشطات الكرديات، هناك من يرى أن الخلافات الداخلية في صفوف حزب العمال الكردي وراء التصفية الجسدية. ما أقصد قوله هو إن الاغتيالات السياسية طالما كانت وسيلة للتخلّص من شخصيات ترى فيها بعض الأنظمة أو المنظّمات المنافسة أو حتى أشخاص من المنظّمة نفسها، ممن لا يتّفقون بالضرورة في وجهات. والحال أن كثيرا من الشخصيات عبر التاريخ تمّت تصفيتها بتظافر جهود هذه العناصر. يعني أنه من الممكن أن تكون دولة ما تسعى للتخلّص من شخصية معارضة فتستعين بأشخاص من محيط المستهدف، أو من الناقمين عليه من داخل المنظّمة ذاتها لتنفيذ العملية. في اعتقادي فإن مسألة الاغتيالات السياسية تبقى تحافظ على جانب من الغموض، لأنها مرتبطة على الدوام بمصالح كبرى وتتمّ بسرّية واحترافية كبيرة. مع ذلك تحتفظ الذاكرة الفرنسية بعدد كبير من التصفيات السياسية.. هذا صحيح، ففي فترة من الفترات كانت الثقافة السائدة ثورية وتسعى إلى التغيير بالقوّة والسلاح، وأقصد فترة السبعينيات، ولم يكن الأمر مقتصرا على فرنسا، فقد حدثت اغتيالات سياسية في إسبانيا من قِبل الحركات الانفصالية، والأمر نفسه في إيطاليا وألمانيا. لكن التركيز على فرنسا سببه التسهيلات التي تقدّمها الدولة الفرنسية فيما يتعلّق بحقّ اللجوء السياسي، وأقصد التسهيلات المادية، إذ يُضمن لكلّ من توفّرت فيه شروط اللجوء السياسي الحدّ الأدنى من شروط العيش الكريم، لذلك تحوّلت باريس إلى قبلة كل من يواجه صعوبات في وطنه. لكن يبدو أن الحماية الأمنية ليست ضمن الحدّ الأدنى مما توفّره فرنسا للاجئين السياسيين المهدّدين بخطر الاغتيالات؟ في اعتقادي الشخصي، فإنه ما إن يصبح أيّ شخص ضمن قائمة المطلوبين للتصفية من طرف دولة ما أو منظّمة، فإن الأمر سيحدث في كلّ الأحوال وأن المسألة مجرّد مسألة وقت لا غير، سواء توفّرت لديه الحماية أم لا. ما يجب معرفته أن الأشخاص المكلّفين بالتصفية الجسدية محترفون، ولا يتركون المجال للخطأ، وإن حدث وتعثّروا في تنفيذ المهمّة فهذا لا يعني إلغاءها، وإنما المرور للخطة الثانية. وكما قلت سابقا، كثيرا ما تكون التصفيات بمساعدات من الداخل، ومن المقرّبين من الشخصيات المستهدفة. في كل الأحوال أعتقد أن من يختار مسار النضال السياسي يدرك تماما العواقب التي تنجرّ عن ذلك، والكل على قناعة أنه ما من دولة تضمن الحماية الكاملة. مثل هذه العمليات ميزة العمل النضالي عبر التاريخ. حاورته: سامية بلقاضي اتُّهم باغتيال دبلوماسيين أمريكي وإسرائيلي جورج إبراهيم عبد الله آخر الزعماء الثوريين في السجون الفرنسية تزامن الحديث عن اغتيال الناشطات الكرديات مع قرار القضاء الفرنسي، الأسبوع الماضي، بإعادة النظر في قرار إطلاق سراح المعتقل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، المتورّط في عملية اغتيال دبلوماسي أمريكي وآخر إسرائيلي سنة 1982 في العاصمة الفرنسية، وذلك على خلفية تأجيل الإفراج عن اللبناني شرط ترحيله من فرنسا إلى مسقط رأسه لبنان. وقد أثار قرار المحكمة الفرنسية جدلا واسعا في فرنسا، لبنان، الولاياتالمتحدةالأمريكية وصولا إلى إسرائيل، ففي الوقت الذي رحّبت لبنان بترحيل مواطنها المسجون في باريس اعتبرت كلّ من الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل الإجراء مخالفا للقانون. وقد تظاهر مئات اللبنانيين والعرب أمام السفارة الفرنسية بلبنان للمطالبة بالإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله، مؤيّدين قرار ترحيله، بعد تمضية قرابة ثلاثة عقود في السجون الفرنسية، لتتحوّل بذلك قضيته إلى قضية رأي عام. والجدير بالذكر أن المعتقل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله هو مؤسّس تنظيم الفصائل المسلّحة اللبنانية، وهي مجموعة مسلّحة ظهرت عام 1979 ضمّت عناصر من اليسار الثوري من عدد من الدول العربية، كانت لها علاقات مع منظّمات يسارية ثورية مدرجة ضمن القوائم الدولية للإرهاب الدولي، على غرار منظّمة ''الألوية الحمراء'' بإيطاليا ومنظّمة ''العمل المباشر'' في فرنسا، وكان العامل المشترك بينهم استهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية في المقام الأول. وقد اتُّهم جورج إبراهيم عبد الله باغتيال دبلوماسيين، هما الإسرائيلي ياكوف بارسيمنتوف والأمريكي تشارلز روبرت في 1982 بباريس. فرنسا مسرح جرائم الموساد الإسرائيلي القضية الفلسطينية في قلب الحدث الباريسي انتقام الموساد لعملية ميونيخ.. محمد بودية والآخرون شكّلت القضية الفلسطينية أحد أهمّ محرّكات الاغتيالات السياسية التي عرفتها فرنسا، حيث وجد عدد كبير من إطارات منظّمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من المنظّمات السرّية المساندة للقضية الفلسطينية، مستقرا لهم في باريس يسمح لهم بمواصلة نشاطاهم النضالي السلمي علنا، غير أن فترة السبعينيات عرفت ارتفاع العمليات المستهدفة للمصالح الإسرائيلية في أوروبا وعبر العالم، الأمر الذي جعل الموساد الإسرائيلي يكثّف من عملياته لتصفية إطارات منظّمة التحرير وكلّ الشخصيات، فلسطينية أو عربية أو أجنبية، المعروفة بنشاطها الداعم للحركات الفلسطينية. ولعلّ أهم موجة اغتيالات تلك التي حدثت في مطلع السبعينيات، وبالضبط سنة 1972، على خلفية عملية ميونيخ، والتي قامت بها منظّمة ''أيلول الأسود'' بألمانيا خلال دورة الألعاب الأولمبية، حيث تمّ احتجاز ومن ثمّ قتل الوفد الرياضي الإسرائيلي، مع الإشارة إلى أن منظّمة ''أيلول الأسود'' طالبت تحرير المعتقلين العرب في السجون الإسرائيلية. وفور انتشار خبر مقتل الوفد الرياضي الإسرائيلي بدأت عملية ملاحقة أعضاء المنظّمة الفلسطينية، والذين كانوا متواجدين أساسا في باريس. من أهمّ القيادات في المنظّمة، ومن قيل عنهم آنذاك إنهم العقول المدبّرة لعملية ميونيخ، الدكتور محمود الهمشري، حيث تمّ تفجير منزله، وقد تلتها عملية اغتيال ثانية راح ضحيّتها، سنة 1973، المناضل العراقي والقيادي في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، باسل الكبيسي، الذي تمّ اغتياله، فيما نجح الموساد في اغتيال زعيم منظّمة ''طلائع حرب التحرير الشعبية''، المعروفة بمنظّمة ''الصاعقة''، وذلك سنة 1979. وقد استمرت محاولات اغتيال شخصيات فلسطينية وعربية وأخرى من منظّمات يسارية تدعو لتحرير الشعوب أكثر من مرّة على التراب الفرنسي، على غرار محاولات التصفية التي تعرّض لها إلييتش راميريز سانشيز، المعروف بكارلوس والمدافع عن القضية الفلسطينية، حيث سعت كلّ من المخابرات الفرنسية والإسرائيلية لتصفيته، غير أنه نجح أكثر من الإفلات والتنقّل من بلد لآخر، قبل أن يتمّ اعتقاله والزجّ به في سجن بفرنسا. والحال أن الجزائر، هي الأخرى، فقدت أحد أبنائها على أيدي المخابرات الإسرائيلية بباريس، ويتعلّق الأمر بالمناضل عن القضية الفلسطينية، محمد بودية، حيث التحق بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ليصبح أحد أهمّ رجالاتها، كانت أشهر العمليات التي نفّذها تفجير أنابيب النفط في مرسيليا سنة 1958، والتي حُكم عليه بسببها بعقوبة السجن لمدة عشرين سنة، غير أنه تمكّن من الهروب سنة 1961، ليتمّ اغتياله سنة 1973 على خلفية عملية ميونيخ.
أشهر الاغتيالات السياسية على الأراضي الفرنسية ؟ المهدي بن بركة: وُلد في جانفي 1920 بالرباط في المغرب. اختفى في 29 أكتوبر 1965 في فونتني لو فيكونت شمال فرنسا. ؟ صلاح الدين خير البيطار (1912 - 1980): سياسي سوري وأحد مؤسّسي حزب البعث، تمّ اغتياله في باريس سنة 1980. ؟ رضا مظلومان: نائب رئيس الوزراء الإيراني في عهد الشاه، تمّ اغتياله في منزله بباريس سنة 1996. ؟ شابور بختيار: آخر رئيس وزراء في إيران في عهد الشاه، تمّ اغتياله بباريس سنة 1991. ؟ محمود الهمشري: الممثّل غير الرسمي لمنظّمة التحرير الفلسطينية في فرنسا، ومن المناضلين الأوائل في حركة فتح اغتيل بباريس سنة 1973. ؟ باسل الكبيسي: عراقي من القوميين العرب وأحد إطارات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، اغتُيل في باريس سنة 1973. ؟زهير محسن: سياسي فلسطيني تزعّم منظّمة الصاعقة الموالية للبعث السوري، اغتيل بباريس سنة 1979. ؟ شارل روبير (دبلوماسي أمريكي) وياكوف باريسمانتوف (دبلوماسي إسرائيلي): اغتيلا في باريس سنة 1982 من طرف منظّمة الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية.