هل يمكن أن نقرأ الترتيب العالمي للجامعة الجزائرية، وقد صُنّفت في ذيل القائمة العالمية، في معزل عن الأوضاع العامة في الجزائر في كلّ مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ من هو المسؤول عن تدنّي مستوى جامعاتنا في الوقت الذي أصبح العالم اليوم يتّكئ على الرأسمال الفكري الذي يُنتَج في مخابر الجامعات ومراكزها البحثية وفي مدرّجاتها؟ طبعا سنجد أنّ كلّ طرف يتّهم الطرف الآخر، وهو ما يعني في المُحصّلة أمرين: إمّا أنّ الجميع مسؤول عن الكارثة، أو أنّ الجميع بريء منها. خارج لغة الاتّهامات والانفعالات وفكرة المؤامرات التي تُحاك للجامعة الجزائرية، ينبغي التفكير على نحو جدّي في إعادة صياغة ماهية الجامعة عندنا ووظيفتها ومصيرها. ونحن طبعا لم نؤسّس بعد لمثل هذا الخطاب الفكري حول الجامعة، وعلاقتها بالمجتمع، وبالسلطة، وبالمعرفة، وبالإنسان، وهي أسئلة تكاد تكون غائبة أو مغيّبة على نحو مريب، كأنّما التفكير فيها يحرّك المياه الراكدة ويزعج دوائر معيّنة لا تخدمها نهضة المدرّجات. كتب جاك دريدا في كتابه الفلسفي ''عن الحق في الفلسفة'' متسائلا: ''أين نحن؟ ومن نحن داخل الجامعة التي نتواجد بها ظاهريا؟ وماذا نمثّل؟ ومن نمثّل؟ وهل نحن مسؤولون؟ وإذا كان الأمر كذلك، فعماذا وأمام من؟ إنّ المسؤولية إن وُجدت، تبدأ على الأقل عندما تقتضي الضرورة الإنصات إلى هذه الأسئلة وتبنّيها والإجابة عليها. ويعتبر واجب الإجابة أوّل شكل للمسؤولية وحدّها الأدنى كمطلب''. (ص 435). إذا كان موقف الفيلسوف الفرنسي من الجامعة الغربية هو هذه الأسئلة المُربكة، فكيف يمكن أن تتحمّلها جامعاتنا وهي التي صارت عاجزة عن مسايرة الجامعات الغربية؟ يجب أن نتأمّل بكثير من الاهتمام هذا النقاش الذي خاضه دريدا حول الجامعة: ماهيتها ومصيرها في الغرب، وقد طرح سؤالا مهمّا: علاقة الجامعة بالمسؤولية. وفي اعتقادي أنّ العلاقة تكشف عن ترابطات أخلاقية والتزامات إنسانية ذات بُعد اجتماعي تخدم الإنسان كما تخدم المجتمع، الأمر الذي يعني أنّ وجود المعرفة والبحث في مجهولها هي من أجل ضمان سعادة الإنسان، ومن أجل تحقيق التطوّر الفكري والسمو الروحي والرقي التقني، فقد كانت فكرة الجامعة ذاتها قد وُلدت كتعبير عن حاجة ملحّة في المجتمعات الأوروبية في عصر النهضة إلى توجيه المعرفة وتأطيرها بما يصحّح مساراتها فتصبّ في مصلحة الإنسان. هنا ستنبثق المسؤولية كنوع من الموقف الأخلاقي الضابط للنشاط العلمي، فأن تتحوّل المعرفة، وهذا ما حدث فعلا، إلى أداة لتحقيق مآرب أخرى ذات مضامين إيديولوجية أو لا أخلاقية كتمويل الحروب والصراعات، وصناعة الأوبئة الفتّاكة، والتأثير السلبي على قوانين الطبيعة و''الجينوم''، فإنّ هذا طبعا سيخلق نوعا من الارتباك بين ماهية الجامعة وبين انحراف أهدافها. سنتحدّث، كما أشار دريدا في الكتاب نفسه، عن علاقة الجامعة بالسلطة، وهي من العلاقات التي ظلّت مستورة تحت شعار استقلالية الجامعة، وماهيتها المتجرّدة أو المترفّعة عن التوجّه الإيديولوجي، والذي يجعلها مؤسّسة ذات شرعية تستمدها من وظيفتها كحاضنة للمعرفة. نموذجنا في الجزائر قد يحمل أبعاد أخرى، لأنّه من الصعب الحديث عن وظيفة الجامعة خارج ذلك المنظور الذي يجعلها مؤسّسة كغيرها من المؤسّسات التي توظّف موظّفين أصحاب شهادات، مهمّتهم تلقين المعارف. ولابدّ أن نلاحظ أنّ ثمّة فرقا شاسعا بين تلقين المعرفة وبين إنتاجها، دون أن نتحدّث، أصلا، عن نجاعة آليات التلقين ذاتها، خاصة وأنّ الجامعة اليوم، على الأقل في أقسام العلوم الإنسانية، مازالت عاجزة عن تكوين طلبة بمستوى يمكّنهم من تلبية حاجات المجتمع من إطارات ذات كفاءة علمية وعملية. من هنا، فإنّ أيّ خلل في البناء الفكري والمعرفي لهذه المؤسّسة يتمّ تفسيره بالرجوع إلى طبيعة ارتباطها بسلطة خارجة عنها، تلك التي تمنحها الترخيص الشرعي، ويرى دريدا أنّ الألقاب التي يتحصّل عليها الأساتذة في الجامعة إنّما تخلقها السلطة، ومن خلالها تؤسّس لتراتبية قيمية داخل هذه المؤسّسة تستمد شرعيتها من طبيعة الرتبة، وبعدها لا يهمّ جوهر ما يملكه صاحب الشهادة. يكتب دريدا في الصفحة 354: ''فهم (يقصد الأساتذة) ليسوا علماء بالمعنى الحقيقي للكلمة.. وكلّ ما هناك أنّ تكوينهم بالجامعات مكّنهم من أن يصبحوا موظّفين لدى الدولة مكلّفين بمهمّات، أي أدوات بيد السلطة''. إنّ الأساتذة، والبرامج الدراسية ومناهج التعليم ومقرّراتها، والتراتبية داخلها هي من صُنع السلطة، لكن هذا يتعارض مع الفكرة التي مفادها أنّ العلماء هم وحدهم المؤهّلون للحكم على العلماء، لكن لما تتدخّل السلطة في خلق الألقاب ومنحها لهؤلاء العلماء هذا يعني أنّ السلطة هي التي تملك الشرعية للحكم على العلماء، وعندنا لا يمكن أن يكون العكس. وفي حالة هذا العكس، فإننا سنشهد حربا رمزية بين المعرفة والسلطة، وإن كان ميشال فوكو قد حاول تجاوز منطق التوتّر بينهما، ليتحدّث عن توافق وتلازم. إنّ الجامعة إذن، تمثّل، بشكل أو بآخر، اشتغال الجسم الاجتماعي والسياسي وغاياتهما، فوجود جامعة في أزمة يعكس أزمة أعمق تخصّ البناء الاجتماعي والسياسي في المجتمع، وهي تعكس العلاقة المتوتّرة بين الإنسان الجزائري بالمعرفة، وعلاقة هذه المعرفة بمؤسّسات أخرى. إذا كانت الجامعة موجودة لقول الحقيقة، ولإنتاج كل تلك القيم المرتبطة بالإنسان، والتدريب على الحكم والنقد والحوار والنقاش المنفتح على الحقيقة ذاتها، دون تشويهات أو زيف، فهل هي اليوم قادرة على التمييز بين الصواب والخطأ؟ وهل هي مهيّأة، أيضا، للتمييز بين العدل والظلم، وبين الأخلاقي واللاأخلاقي؟ ما أعرفه أنّ مثل هذه الأسئلة محرجة للكثيرين، لأنّها تصبّ في صميم الإحساس بالمسؤولية إزاء ما يحدث داخل أسوارها، وداخل مدرّجاتها وكلّياتها. ما يؤلم، فعلا، أن يتحوّل التفكير العقلاني إلى حالة شاذة، بل وإلى ممنوع من الممنوعات، كما أن تتحوّل الصراعات الشخصية إلى الواجهة الأمامية لهذه المؤسّسة، ولستُ في حاجة إلى أمثلة أو إلى شواهد عما يقع اليوم من تجاوزات، سواء في عمليات التوظيف، في الامتحانات وتوجيه الطلبة، وفي مساومات، وما يحدث في كواليس الملتقيات التي تأخذ، في الظاهر، شكل الملتقى العلمي، وفي باطنها تخفي اهتراءات خطيرة. طبعا، بلغنا، للأسف، مرحلة تحوّلت فيها الجامعة إلى قبيلة، والمعرفة إلى شعوذة، واللاأخلاقي إلى حرّيات.