هل تعكس أزمة الأفالان نهاية نوعية معينة من النضال الحزبي في الجزائر؟ أم أنها تكشف عن أزمة عميقة في الممارسة السياسية ككل في البلاد؟ مادام الحزب العتيد ظل دوما في واجهة الحكم، حتى بعد مرور 50 سنة على استرجاع السيادة الوطنية والاستقلال، فحالته تعد انعكاسا للتردي الذي يعصف بالطبقة الحزبية وعلى صلة بالصراعات المتجددة داخل أجنحة ومنظومة الحكم في البلاد، التي لم تعد تواكب تطورات المجتمع. وما يحدث في الأفالان من ''تعفن'' سياسي، ليس خاصية حزبية بقدر ما يمثل الجزء الظاهر من جبل الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تراكمت على الجزائر وأضحى يستعصي حلها بحقن إصلاحات سطحية أو بمسكنات تعديلات دستورية، تمدد من عمر الأزمة ولا تحلها من الجذور. تكتلات المصالح تفرّق حزب جبهة التحرير الوطني على عكس الكثير من الأزمات التي مرّت بها جبهة التحرير الوطني، غلب على الصراع الحالي الطابع الشخصي المبني على الرغبة في الزعامة والتواجد في المواقع التي تحقق مكاسب مادية وسياسية. فقد ولّى زمن الأفالان الذي تتعارك فيه الأوزان الثقيلة على التوجه السياسي والإيديولوجي، واستخلفه تطاحن على العضوية في مكتب القسمة. يأخذ عبد العزيز بلخادم على معارضيه، أن الحملات المتلاحقة التي شنّوها ضده منذ ثلاث سنوات مختصرة فيما يلي: ''لماذا أنت في منصب الأمين العام وليس أنا؟'' و''لماذا ذاك الشخص في المكتب السياسي ولست أنا؟'' أو ''لماذا فضّلت ذاك عني في الترشيح للانتخابات؟''. ويسعى الأمين العام المنهزم في معركة الثقة، إلى رفع أي مبرر سياسي قد يختفي وراءه ''التقويميون'' وكل أصناف المعارضين، في توجيه التهم. ولما طالبه الخصوم بالاقتداء بالأمين العام الأسبق، المرحوم عبد الحميد مهري، على أساس أنه تنحى العام 1996 بمجرد أن تليت عليه أسماء أعضاء اللجنة المركزية المطالبين برحيله، قال لهم إن الكبير مهري اتهم بالانحراف عن توجه الحزب وخطه السياسي، بأن جرّه إلى المعارضة. فقد شارك مهري في لقاءات الكنيسة الكاثوليكية بروما مع قيادي الفيس أنور هدام، ومع عدوّي السلطة اللدودين حسين آيت احمد وعلي يحي عبد النور، ومع لويزة حنون يوم كانت في المعارضة. بمعنى آخر، غيّر مهري خط الحزب 180 درجة، فوضعه في نفس الخندق مع الجماعة الإسلامية المسلحة، حسب مآخذ معارضيه، آنذاك، الذين كانوا يعكسون موقف العسكر بوضوح. ويتهم ''التقويميون'' بلخادم منذ ثلاث سنوات، ب''الانحراف عن الخط الأصيل للأفالان''. والانحراف كما ظهر في تصريحاتهم، هو ''التمكين لدخلاء'' من العضوية في اللجنة المركزية المنبثقة عن المؤتمر العاشر، واختيار تشكيلة ''هزيلة'' للمكتب السياسي. وجاءت بعدها تهم ''تقريب المفسدين وأصحاب الشكارة'' من الأمين العام وأخيرا ''السعي للتحالف مع الإسلاميين لمساندته في انتخابات ,''2014 التي يصرّ المعارضون على أن بلخادم سيترشح لها وأن لديه نوايا غير معلنة في خلافة بوتفليقة. أما فهو، فيقول إن مبررات خصومه واهية، بحجة أنه لو اختار تشكيلة مكتب سياسي أخرى، لثار عليه الأعضاء الحاليون ولو رشّح للانتخابات التشريعية والمحلية آخرين للقي سخطا ربما أشد. وعن ''نواياه في الرئاسة''، فهو يصرخ بأعلى صوته أنه أول من رشح بوتفليقة لعهدة رابعة. وعلى خلاف زمن مهري، حيث جهر قياديون بمعارضتهم السلطة، ما أثار المحسوبين عليها في الحزب، يتسابق الفرقاء اليوم على خدمة النظام ورأسه! الأمر الذي يزيل كل مبرر سياسي عن الخلاف.لكن المثير في الصراع ، أن الوزراء الثمانية، ظلوا مساندين لبلخادم وهو يواجه ''التقويميين'' في البداية، ومن بعدهم جماعة هيشور. والرسائل الثلاثة التي رفعوها إليه لمطالبته بالرحيل، تتناول ذرائع غير مؤسسة من قبيل أنه يعادي وزارة الداخلية. الأفالان دخل مرحلة استحالة العيش دون أزمات داخلية تكشف حالة الفراغ والأزمة التي يمر بها الحزب، أن الأفالان لم يخرج من الحزب الجهاز إلى الحزب الجماهيري، رغم كل ما قيل عن التشبيب والانفتاح، وذلك دليل على أن سلطة القرار في الحزب العتيد، لم تعد تولد من القاعدة بقدر ما يرتب لها خارج أطره ومملاة من جهات فوقية. بلغت القلوب داخل الأفالان الحناجر وسلّت السيوف من أغمادها بين الإخوة الأعداء، فقط من أجل ترحيل الأمين العام والظفر بمكان في حظيرة المكتب السياسي الذي مازال بمثابة ''الفراج'' الذي يستريح فيه إطارات الحزب، في انتظار الظفر بوظيفة في أجهزة الدولة على غرار وزير أو سفير أو حتى نائب في البرلمان. ولعل هذه الصورة الملتصقة بالعضوية في الحزب وراء إفراغ الأفالان من أي نقاش يذكر، لكون اهتمامات الموالين والمعارضين في لجنته المركزية وليس في القسمة أو المحافظة، منصبة على كيفية الفوز بمقعد، دون غيرها من القضايا الأخرى التي تخص البلد والذي يعد الأفالان مسؤولا عنها من بقية الأحزاب، لكونه المستفيد الأول منها ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا. لقد اضطر الحزب لامتصاص توتر الغاضبين، وأمام كثرة الراغبين في الصعود إلى سدرة المنتهى في هياكل الحزب، إلى توسيع ''برنوس'' اللجنة المركزية بأمتار أخرى وجعلها ''تتمدد مثل الأستيك''، حتى يتسع حضنها لأكبر عدد من المتقاعدين، وبالشكل الذي يجعل مناضلي الأفالان كلهم في القيادة في ظل رفض الجميع البقاء في القاعدة، وفي ذلك أكثر من مؤشر على أن الأفالان الذي كانت اجتماعاته تحبس الأنفاس حتى في عهد الحزب الواحد، لم يعد يملك مساحة للتراشق بالأفكار في عهد التعددية. وكشف صراع الديكة في أعلى هيئة ما بين المؤتمرين للحزب، أن النظام الحاكم وجهازه الأفالان، ليس لديه أي استعداد إرادي لمباشرة التغيير خارج الضغوط الداخلية والخارجية. ولعل هذا الواقع هو الذي جعل الصراع الدائر في الأفالان لعدة أشهر، يقتصر على إجراء عملية تجميل ''ليفتينغ''، دون الذهاب بعيدا في عملية التقييم، إلى تفقد ومعاينة المحرك والقلب النابض للحزب. وبعدما ضيع لونه السياسي منذ عدة سنوات، من خلال تبنيه برامج لا تمت بصلة إلى مرجعياته التاريخية، أقرت الأممية الاشتراكية اعترافها بعضوية الأفالان ضمن صفوفها بعد سنوات طويلة من الرفض، وفي ذلك محاولة منها لإقناع الجزائريين بأن الأفالان ما يزال حزبا اشتراكيا ولم يذوبه الانفتاح والليبرالية الذي عرفته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي. لقد أثبتت مجريات أزمة الأفالان وصراعاته، أن حزب السلطة ليس بمقدوره الحياة والاستمرار دون أن تستحدث له ''أزمات'' مرحلية، تعيد النبض له، لأنه مات طبيعيا وبقي حيا ''إكلينيكيا''، بعدما لم يعد له مكان للنضال بقدر ما حُوّل إلى مجرد هيئة لتوزيع الريع ومناصب المسؤولية وبيع الأصوات والذمم. وعندما يعجز الأفالان بعد التعددية عن التحول من الحزب الجهاز إلى الحزب الجماهيري، فهو دليل على أنه حزب ''بارشوك'' لتأطير ''الصدامات'' ما بين الزمر الحاكمة داخل نظام ''طاب جنانو''. الجزائر: ح. سليمان حوار أستاذ العلوم السياسية بجامعة ورفلة د. قوي بوحنية ل''الخبر'' ''الأداء السياسي للنظام ستصيبه شظايا الأداء الهزيل للأحزاب'' كيف تقرأ أزمة جبهة التحرير الوطني؟ بعيدا عن الطرح التآمري، أرى وجود حراك حتمته ظروف سياسية تميزت بالنمطية والرتابة في العمل السياسي لأغلب الأحزاب السياسية في الجزائر، وهذه الرتابة عكسها غضب المواطن العادي، ناهيك عن المتعاطي مع الشأن السياسي أو المتعاطف مع حزب الأغلبية. والتذمر الذي سميته ''أزمة'' والذي تبلور لاحقا في تيار قيادي وحزبي معارض للقيادة السابقة، هو اتجاه صحي في جميع الأحزاب، شريطة أن يكون الخلاف على أسس برامجية وليس مجرد خلافات شخصية سرعان ما يعاد إنتاجها لاحقا، إذا لم تكن قائمة على أسس مبررة. لذلك، فحزب بحجم الأفالان يعد بجميع المقاييس فضاء يضم آراء واتجاهات واختلافات، تختفي تارة وتغيب أخرى، ما دامت تسوده رؤية وإستراتيجية تقوم على عدة شرعيات. ولعل نتائج الانتخابات السابقة البرلمانية والمحلية وانتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة، شكلت مصوّغات إضافية للفريق المعارض للقيادة السابقة، للوصول إلى هذه النهاية. هل تعتقد أن الاضطرابات التي يعيشها حزب الأغلبية مؤشر على تغيير مرتقب في مؤسسات الدولة؟ أي تغير يمس حزب الأغلبية ستكون له انعكاسات على المجال السياسي العام ومنه مؤسسات الدولة، إذ أنه الحزب التاريخي الذي شكل رافدا للنخبة السياسية في السلطة، وهو الحزب الذي ظل يشكل برنوسا سياسيا وعباءة يتدثر بغطائها كثير من الساسة، ولذلك يبقى هذا المعطى ملمحا مهما في الحكم على هذا الحزب وأدائه، لذلك يحلو لكثير من المحللين وصفه بحزب السلطة لاعتقاد أكيد تبرره نتائج المحطات الانتخابية المختلفة، بغض النظر عن ظروف إجرائها والجو السياسي المتحكم فيها. ومن ثمّ، يمكن الجزم بأن التغير في أداء الأفالان والتغير في قيادته، له علاقة بالشأن السياسي العام وليس بالضرورة بمؤسسات الدولة. وهناك وجهة نظر أخرى، ترى أن ما يحدث من سجال في الحزب العتيد وغيره من الأحزاب، بمثابة ربيع حزبي بنكهة جزائرية خالصة. ما رأيك في الطرح الذي يقول بأن الأفالان عندما يصاب بالزكام، يعني أن العلاقات متشنجة بين أجنحة النظام؟ في دولة المؤسسات حيث تتبين الملامح السياسية للسلطات الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية وحيث تتبارى الأحزاب السياسية في تقديم بدائلها للمواطن وحيث تظهر قواعد اللعبة الديمقراطية بوضوح، لا يمكن أن يؤثر تراجع أداء حزب أو إصابته بالرشح والزكام على الأداء السياسي للنظام، ولذلك فالقول بهذا قد تكون له مبرراته لكن نقاشنا، حسب نظري، يجب أن يتجه حاليا بعمق نحو تشخيص النظام لا شخصنته. وفي جميع الأحوال، فالأداء السياسي للنظام ككل ستصيبه، حتما، شظايا الأداء السياسي الهزيل للأحزاب. الجزائر: حاوره حميد يس عضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني عباس ميخاليف ل''الخبر'' الفتن في الأفالان مهيكلة ولا بديل عن إعادة بناء الحزب يوحي الصراع القائم، حاليا، في جبهة التحرير الوطني، بأن كل الأجنحة لا ترغب إلا في السيطرة على الجهاز وتوظيفه للحصول على منافع سياسية ومادية ولا تحمل أي مشروع سياسي؟ حاليا، هناك صراع بسبب اختلاف المشارب، لكنه في جوهره صراع بين تيار يريد أن يعيد جبهة التحرير إلى طريقها كحامل لرسالة الشهداء وناقل لتطلعات المجتمع، وبين الدخلاء السفهاء وعابري السبيل الذين يريدون أن ينحرفوا بهذه الرسالة ومن خلال ممارسات ضمت ''الشكارة'' وتأجير المواقع لغيرهم، وشراء كراسي في مؤسسات ذات سيادة مثل البرلمان. هناك من يرى أن الأزمة الحالية في الحزب تمت تغذيتها من قوى خارجية عنه؟ هذه قناعة يتقاسمها كثير من أبناء الأفالان، لقد تمت هيكلة الفتن في الحزب لتحويل الرأي العام والخاص في الجبهة عن القضايا الأساسية والجوهرية، وأصبح ممثلوه غير قادرين على التأثير في القرار وفي المجتمع. تنقدون القيادة السابقة بأنها سمحت بتسلل دخلاء إلى الحزب، هذا يعبّر عن خوف تيار في الأفالان يريد أن يتوارث الحزب ويمنع تجديده ؟ يجب أن تتم عملية التجديد بخطة مدروسة وبادرنا في وقت سابق بعمل جاد في هذا الخصوص، وأما ما تم حاليا، فهو تسلل من أسميهم بالدخلاء والسفهاء، ثم إن عملية التجديد لا تتم بإقصاء المناضلين والقطيعة بين الأجيال، ثم إن رسالة جبهة التحرير متجددة، تتكيف مع كل المراحل. تتهم القيادة الحالية للأفالان بأنها حوّلت الحزب إلى لجنة مساندة؟ جبهة التحرير كانت ومازالت من المحاور الإستراتيجية للسلطة، هي تأخذ بواقع البلد وبالتوازنات وهذا لا يعني عدم توفرها على برنامج مستقل، لأن الحزب هو برنامج عمل رجال يؤمنون به، وليس أفواها مفتوحة وأيدي لتزكية ما لا يزكى. للأسف، تعرض خط جبهة التحرير للتحريف، والقيادة السابقة مسؤولة عن هذا الوضع. لقد رهنت قرار الحزب خارج مؤسساته الحقيقية، وهو وضع لم نشهده حتى في فترة الحزب الواحد. ما هو البديل للخروج من الوضع الحالي غير وضع جبهة التحرير في المتحف؟ تصفية الأجواء وإعادة هيكلة الحزب وتطهير الصفوف والعودة إلى الخط الأصيل وسد الطريق أمام الوصوليين الذين حوّلوا الحزب إلى أداة لقضاء مآربهم. الجزائر: حاوره ف. جمال