الجزائري ميّال بطبعه إلى الصلح هل يتغلّب الوسيط القضائي على ''سيطرة'' العشيرة؟ يناهز تعدادهم، حتى الآن، 2000 وسيط قضائي عبر التراب الوطني، منذ استحداث هذا النشاط الذي مازالت هويّته مبهمة، بين كونه ''مهنة'' قائمة أم ''مهمّة'' محدودة بالسلطة التقديرية للقضاء. ورغم مرور أزيد من ثلاث سنوات عن صدور المواد الأربع التي تنظّم نشاط الوساطة القضائية ضمن القانون رقم 08/09 الخاص بالإجراءات المدنية، إلا أن الوسيط القضائي مازال يبحث له عن مكان ضمن الخريطة القضائية الجزائرية، مقارنة بنظرائه في دول أصبحت فيها الوساطة من أهم مزايا النشاط القضائي. ''الجزائري متشدّد سلوكيا، لكنه، تاريخيا بطبعه، ميّال إلى الصلح، والتمايز بقدرته على التجاوز''، بهذه العبارة يستقبلك أيّ وسيط قضائي متمرّس في ترويض الذهنية التنازعية الجزائرية. الوساطة في المجتمع الجزائري، حسب الوسطاء القضائيين، تُعتبر تحصيل حاصل، منذ غابر التاريخ، ولربما، حسب مختصين في المجال، هي عائدة إلى عدم الاستقرار الذي عاشه الشعب الجزائري طوال وجوده وتمايزه في قالب إثنيات، تماسكت في وجه عديد الحملات الاستعمارية التي ألمّت بالشمال الإفريقي، وكان من أهمّ الردود عليها الاحتكام للجماعة والعشيرة بدل الاحتكام لقوانين القوى المستعمرة، فكانت الوساطة في فضّ النزاعات البينية وسيلة من وسائل الحفاظ على استقلالية العشائر وحماية القيم الموحدة لتماسكها. وعلى الرغم من هزّات التغيّرات الاجتماعية التي تسارعت طوال 50 سنة عن استقلال الجزائر، بأسماء شتّى يصبّ مجملها باسم تحديث المجتمع ونقله من شكله العشائري إلى أشكال أوسع، دون الوعي بما يمكن أن يحدثه ذلك من تفسّخ وتغليب للطابع الأناني على حساب الإيثار الجماعي، إلا أن كلّ ذلك لم يزحزح صرح الوساطة في قالبها التقليدي كلّية، فمازال المجتمع الميزابي، مثلا، متماسكا في حلقة ''العزابة'' التي تصدّت، بكلّ قوة وإلى حدّ التصادم، لما سُمّي قانون الأسرة بنزع العصمة من كبير العائلة والقوم، ومازال المجتمع القبائلي صامدا في شكل ''تاجماعت''، بل كلّ المجتمع الجزائري في عمقه ممثّلا في ما يسمّى ''الجماعة''، وما عودة المشرّع الجزائري لاستحداث قانون للوساطة، سنة 2008، سوى نوعا من الصحوة، بعد تجارب مريرة واغتراب عميق غُيّبت خلاله أهمّ خصال وخصوصيات ما كان لها أن تزول لولا سوء التقدير، يقول أحد الوسطاء القضائيين، والذي لا يعتبر انخراطه في هذه المهنة أو المهمّة بجديد عليه، بل مجرّد هزّة ضمير ووفاء لتراث اجتماعي كان، في الأساس، البطن الذي وُلد منه علم الاجتماع الحديث بأرض الجزائر، وعلى يد العلاّمة ابن خلدون في مصطلح ''العصبية'' أي ''الجماعة'' في عمقه. لكن عودة الوساطة عند المشرّع الجزائري لا تعدو، حتى الآن، سوى أن تكون وجها من وجوه '' تقنين السياسي'' بدل ''تسييس المقنّن''، وذلك ما يبرز من خلال قراءة متأنّية للأهداف المتوخاة في الدليل الخاص بالوسيط القضائي، الصادر عن الجمعية الوطنية للوسطاء القضائيين، وهوما أبقى، ربما، زهاء ثلثي عدد الوسطاء المعتمدين بعيدا عن أضواء هذه الجمعية، التي أُنشئت، خصيصا، لتدارك النقائص والشوائب التي مازالت مضيّقة على هذا النشاط، بحيث لم يتجاوز عدد منخرطي الجمعية، حسب ما كُشف عنه في أول تقرير خاص بحصيلة نشاطات الجمعية خلال 2011، ال716 وسيط من بين 1916 معتمد، وهو ما فسّره أحد المتحدّثين ل''الخبر'' بخلل ما، بأن رجّح أن يكون الباقون خارج الجمعية إمّا من المنسحبين أو ممن لم يتمكّنوا من ممارسة المهنة بسبب مختلف العوائق التي تعرّضوا لها، وفي مقدّمتها معضلة عدم تمكين الوسيط القضائي، حتى الآن، من بطاقة مهنية تؤهّله للاتّصال بسهولة مع باقي محيطه الإداري، الرسمي والاجتماعي. بورتريه الأستاذ صادق ولد رامول.. 3 سنوات دون بطاقة مهنية الوسيط محامي طرفي النزاع وشعاري ''خصمان رابحان'' لم تتبيّن أمام الأستاذ صادق ولد رامول، الوسيط القضائي لدى محكمة المدية، حتى الساعة، خارطة طريق جليّة، رغم انتمائه للدفعة الأولى من الوسطاء التي تمّ اعتمادها سنة 2009، وهو الذي، كما قال، جاء إلى الوساطة كساعٍ لإصلاح ذات البين وغيرةً على تضييع المجتمع الجزائري والمدني للعديد من قيمه، وفي مقدّمتها شيمة التسامح والتعاطي مع أسبقية الصلح التي أقرّها ديننا الحنيف. وعمل الأستاذ ولد رامول لم يأت من فراغ كما أكّد، فهو يبلغ من العمر 58 سنة وأب لأربعة أطفال، حيث إنه قضى جلّه بين عدّة وظائف من أستاذ ثانوي إلى متصرّف إداري وتوجيهي في الموارد البشرية والعلاقات العامة بمؤسّسة ''كهريف''، ما أكسبه خبرة هامة، كما قال، في التعامل مع الخلافات والمزاج التعايشي بين مختلف وجهات النظر التصادمية، وهو ما جعله، وهو المتقاعد، يتفاعل بإيجابية، ومبكّرا، مع خبر ميلاد قانون الوساطة القضائية بالجزائر، حيث قال: ''تولّد لديّ إحساس كبير بالقدرة والكفاءة على ممارسة مهنة أو مهمّة الوسيط القضائي، لا طمعا في المال بل إرضاءً لرغبة في ضميري. لكن من خلال معاشرتي ل40 جلسة وساطة أجريتها بين المتخاصمين أحسست أنني مكبّل، لأن القانون مازال يحصر نشاطنا في القضايا ذات الطابع المدني، فهناك 35 قضية عالجتها متعلّقة بالعقار، وخمس قضايا مدنية وقضية واحدة ذات طابع تجاري، على مدى أزيد من ثلاث سنوات، وهذا يعني أن المتخاصمين المقبلين على أروقة التقاضي مازالت الوساطة بالنسبة إليهم شيئا هامشيا أو ثانويا، أو لم تصل مسامعهم بعد''. أما عن العلاقة بالمحامين، الذين يُعتبرون، مهنيا، خصوما مفترضين للوسيط القضائي، من منطلق ''مصائب المتخاصمين عند المحامين أتعاب وفوائد''، فيقول الأستاذ ولد رامول ''هناك محامون تفاعلوا إيجابيا مع ميلاد الوسيط القضائي، وهناك من رأوا فيه نذير شؤم. وهؤلاء لا يلجأون إلى فرضية الوساطة إلا في تلك القضايا التي لا حيلة لهم في ربحها أمام المحاكم، أو تلك التي يتخوّف بعضهم الآخر من مساسها بسمعتهم المهنية. ومع هؤلاء لا تتعدّى مهنة الوسيط كونها مشجبا لتعليق جبّتهم وقضاياهم الفاشلة مسبقا عليه''. كما على الوسيط، حسبه، أن يتفطّن إلى بعض الحيل التي قد يلجأ إليها بعض المحامين مع موكّليهم، وهي عرض النزاع على الوسيط ليس بغرض الصلح بين الموكّل وخصمه بل لمجرّد ربح الوقت.
الأكثر مكراً لتسيير النزاعات حسب المبتغى ولا يخفي الأستاذ ولد رامول استنكاره لمسألة حرمان الوسيط القضائي من بطاقة مهنية، وكذا نصوص قانونية أوسع تمكّنه من الولوج إلى مختلف الإدارات، للحصول على الوثائق والملفات التي تساعده على مواجهة المتخاصمين بالحجج والبراهين المادية المقنعة والمذلّلة للتطرّف والتشدّد في الخصومات، لأن آخر الإقناع ''الكيّ''، وهنا يحتفظ محدّثنا بإحدى أصعب المواجهات التي قام بها بين متخاصم وابن أخيه حول قطعة أرض، حيث قال: ''طوال ستّ جلسات وساطة كاملة لم يقبل أيّ منهما مواجهة أو مجرّد رؤية خصمه وكانا في قمّة التشنّج، لأفاجأ بهما يحضران سويّا إلى سابع جلسة صلح متبادلين الاعتذارات وقبلات الصلح، وهو مشهد مؤثّر بين ذوي قربى عاشا أزيد من 20 سنة في حالة شاذة من الجفاء، سأحتفظ به ما عشت''، يختم الأستاذ صادق ولد رامول. شاهد من أهلها الوسيط القضائي الأستاذ قسوم الماحي ل''الخبر'' ''أمارس عملي في البيت ولم أحرّر حتى الآن فاتورة أتعاب واحدة'' يعتبر الأستاذ قسوم الماحي، الوسيط القضائي لدى محكمة قصر الشلالة بولاية تيارت، وهو برلماني سابق ناهز الستين من عمره، أن نشاط الوساطة، الذي يمارسه منذ سنة 2010، كان واجبا عائليا ورثه عن والده، الذي كان كبير الأهل وقاضيهم وحامي صلة الرحم والقرابة بينهم، كما قضى محدّثنا، كما قال، عهدة برلمانية أهّلته أكثر لفضّ النزاعات البينية بين أهل بلدته من موقعه كنائب بالمجلس الشعبي الوطني تتمّة لهذا الموروث العائلي، حتى إنه لم يتخل عن استخدام بيت عائلته كمقرّ لممارسة مهنة أو مهمة الوساطة، ''أولا لأنه ليس باستطاعتي تأجير مكتب دون مداخيل واضحة، فأنا، ولحد الآن، لم أحرّر أيّ فاتورة أتعاب للمحكمة، وثانيا لأن الناس تعوّدوا على توفير الأجواء العائلية لفضّ نزاعاتهم، وبإقامة الولائم للأطراف المتخاصمة المعروضة عليه من أجل الوساطة، نتمكّن من تذليل حدّة النزاعات مهما كانت خطورتها، وبالتالي النجاح في إصلاح ذات البين بين المتخاصمين''، إلا أن الوساطة، في قالبها الرسمي، مازالت مجرّد صرخة في واد من الانهيارات الاجتماعية المتسارعة، حسب الأستاذ قسوم، ما لم يتمّ تمديدها إلى قضايا الأسرة ونزاعات العمل، وهي من أهمّ المطالب المطروحة على مكتب وزير العدل من قِبل الجمعية الوطنية للوسطاء القضائيين، إلى جانب مطالب أخرى، كاستصدار البطاقة المهنية للوسيط القضائي، وإدراج مواد قانونية أخرى تمكّن الوسيط من التمتّع بنفس مزايا باقي أعوان القضاء من خلال بطاقية وطنية جليّة المعالم، وليس البقاء في دائرة التأرجح بين كونها مهنة ثابتة أو مهمّة غالبا ما يكتفي صاحبها بدور فاعل خير، أو مأجور بواسطة سلطة تقديرية دون كيفية منهجية لتحديد حجم التعويضات، يضيف محدّثنا، الذي أعاب على الوساطة القضائية عزلتها وجمودها في شكلها الماثل حاليا، معيدا ذلك إلى غياب الإعلام وجهل المتقاضين لأهمّيتها وأسبقيتها بحكم إلزامية القانون، على كافة مراحل التقاضي. ''أنا ممن يطالبون بإدراج وساطة قَبْلية على مستوى الضبطية القضائية، لأنه مع التجربة أدركنا أن الوساطة ستكون أنجع قبل انفجار النزاع وبلوغه سدّة النيابة، لأن طرفي النزاع يصبحان أكثر تشدّدا عندها وتصير ''التاغنانت'' سيدة الموقف''. أغرب وساطاتي لأمّ ارتهنت في خصام بين ابنها وشقيقها رغم أن عدد قضايا الوساطة التي عُرضت على الأستاذ قسوم من قِبل محكمة قصر الشلالة لم يتجاوز الثمانية، إلا أن أغلبها كان عائليا وفي مجال النزاع حول العقارات والمنافع المادية، ولعلّ أغربها، يقول هذا الوسيط، هو خصام حول دين بين خال وابن أخته، حيث إن الخال أنكر أنه استدان مبلغا من المال من ابن أخته بغرض اقتناء سيارة، لتجد أم الدائن، وهي شقيقة المدين، نفسها رهينة بين أن تقف إلى جانب ابنها صاحب الحقّ أو إلى جانب شقيقها ناكر الجميل، ''في الحقيقة قمت بمهمّة الوساطة تعاطفا مع حال هذه الأم، وليس لفائدة المتخاصمين، ونجحت الوساطة في دفع الخال المدين إلى العودة عن باطله وإقناعه بالذهاب إلى موثّق لتحرير وثيقة اعتراف بالدين لفائدة ابن أخته. وبذلك خرجت فخورا بتحرير تلك الأم من ورطتها، ولم أسارع بعد إلى تحرير أي فاتورة أتعاب إلى المحكمة''، ليختمها الأستاذ قسوم بدعوة زملائه إلى التفاؤل خيرا بمهنة الوساطة، لكن قبلها، النضال من أجل ترقيتها احترافيا إلى مصاف مثيلاتها بدول سبقتنا إليها، خاصة في مجال تحديد المواصفات التي يجب التمتّع بها في مجالات التكوين. غير أن ما لا يمكن هضمه بسهولة، حسب المتحدّث، هو أن تتولّى دول أجنبية رعاية وتمويل أنشطة الجمعية الوطنية للوسطاء القضائيين، كما وقع في الملتقى الوطني المنعقد يومي 20 و21 جوان 2012 بفندق الشيراطون، باسم التعاون مع اللجنة الأوروبية. فهل أصبح الصلح بين الجزائريين، أيضا، شأنا أوروبيا، حتى في استعادة خصوصيات جزائرية ومن عمق ديننا الحنيف؟ يتساءل الأستاذ قسوم مستنكرا.