لم يكتب الروائي الأمريكي، كورماك ماك كارثي، سوى تسع روايات، رغم أنه بدأ الكتابة منذ أربعين عاما، ونشر روايته الأولى سنة 1965 بعنوان ''حارس البُستان''. ومثل كثير من الروائيين الأمريكيين، ذاع صيته بفضل تحويل رواياته إلى السينما، حتى أنني كنت دائما أسأل نفسي عن سبب رواج فيلم ''لا موطن للرجل العجوز'' المقتبس من روايته، فهل يعود ذلك إلى إصرار الأخوين كوهين اللذين أخرجا الفيلم على التشبث بالرواية بتفاصيلها الكثيرة، دون إدخال أي تعديلات، ففاز بأربع جوائز أوسكار، أم لدور الممثل الإسباني خافيير بارديم الذي تحوّل من عاشق وديع ومهذب في فيلم ''الحب في زمن الكوليرا'' المقتبس من رواية غابرييل غارسيا ماركيز، حينما جسد شخصية العاشق فلورنتينو أريثا، الرجل الذي ظل وفيا لحبّه الأول مدّة تفوق ستين عاما، إلى شخص متوحش في فيلم الأخوين كوهين. على كل حال، أعتقد أن فيلم ''لا موطن للرجل العجوز'' يدفع فعلا لقراءة رواية كورماك ماك كارثي التي تدور أحداثها في مدينة تكساس الأمريكية، على الحدود مع المكسيك، بطلها رجل يدعى موس لويلان (جسده في السينما الممثل جوش برولين)، يذهب للصيد بنهر ''الريوفراندي''، فيجد نفسه أمام مجزرة مروّعة وقعت عقب معركة بين أفراد من المافيا المحلية، تبرز أمامه في شكل جثث ملقاة بشكل مبعثر، ورجل يحتضر، وأسلحة هنا وهناك، وأكثر من مليوني دولار في حقيبة، يعثر عليها.. باختصار، نجد أنفسنا أمام كل التوابل التي تثير إعجاب هوليوود. ويستولي موس لويلان على المبلغ، ويعرّض نفسه للخطر، ظنا أنه عثر على السعادة، لكن جهله لدموية القوى الشريرة التي حرّكها بفعل استيلائه على المال، تضع حياته في خضم الخطر، إذ تتعقب تلك القوى الشريرة آثاره من أجل استعادة ما ضاع منها. فيدرك أن الهدية التي نزلت عليه من السماء ليست، في النهاية، سوى فخ نسجه قدر لعين. وتغرق الرواية، كما الفيلم تماما، في السديم، ويتفرّع الشر وفق مستويين، مستوى الجماعة ومستوى الفرد، عبر شخص يعمل لصالح الجماعة التي ضاع منها المال، فيظهر خافيير بارديم مجسدا شخصية أنطون، على هامش العالم المتحضر في فضاء الحدود مع المكسيك، يذكرنا برواية قصيرة عنوانها ''انتقام'' للروائي الأمريكي جيم هاريسون التي تحوّلت بدورها للسينما، ومثل فيها أنطوني كوين آخر أفلامه. وهناك كمّ هائل من الروايات الأمريكية تلجأ للحدود التي تفصل بين أمريكا والمكسيك، ولأسطورة نهر ''الريوفراندي''، وتختار شخصيات مكسيكية للتعبير عن درجة الشر التي تكمن في الإنسان. فالشرير في رواية هاريسون مكسيكي انتقل إلى العيش في الضفة الأخرى من النهر، بعد أن اكتسب ثروة طائلة بطرق غير شرعية، فيصطدم باستقامة مواطن أمريكي يدعى ديلر (تمثيل كيفين كوستنر)، وتكاد تبرز صورة المكان في شكل لوحة ''مانوية'' تقوم على ثنائية الخير والشر. أراد كورماك ماك كارثي أن يخبرنا بروايته أن الخيار الخاطئ يؤدي دائما بصاحبه إلى الهلاك، وما يهمه في هذه الرواية يكمن في هذه الحرب الفظيعة التي يخوضها الإنسان ضد نفسه وضد الآخرين، وكيف تحرّكه غريزة الموت التي تتغلب على كل الغرائز الأخرى، وتضع الإنسان أمام لحظة قريبة من البربرية والقسوة التي تخرّب المجتمعات. وعرف ماكارثي بلجوئه لقيمة القتل إبراز رغبة الإنسان في قتل الآخر بشكل عبثي، ويصل إلى تلك النتيجة المخيفة، وهي أن المجتمع البشري قام على ظاهرة الإبادة وعلى تجسيد الشر المطلق الذي لم يجد من يضع له حدّا، اللهم إلا مسألة الصدفة، هذه الفكرة المحبّبة للروائي بول أوستير. تعدّ رواية ''لا موطن للرجل العجوز''، عملا روائيا مليئا بالعنف، يصوّر مجتمعا متوحشا، حتى أن ماك كارثي قال في أحد حواراته: ''لا توجد حياة دون سفك للدماء''. إنه روائي التوحش بامتياز، ورائعته ''الطريق'' الحاصلة على جائزة ''بولتزير'' عام 2007 تعدّ بمثابة خاتمة هذه الفكرة التي يؤمن بها. إن ماك كارثي هو سيّد رواية القيامة، يعرف عنه انتماؤه للجيل الذهبي (مع فليب روث، وتوماس بينشون)، وميله لوصف عوالم العزلة، وهو نفسه يعيش في عزلة تامة، ويرفض الأضواء والبهرجة، بدليل أنه لم يجر سوى ثلاثة حوارات صحفية طيلة أربعين عاما، وله ميل للتأمل الفلسفي، وطرح أسئلة الحياة والموت. والمثير في فلسفة ماك كارثي، ذلك التذمر الذي يعلنه من تنكر الأمريكيين للماضي، ومن عدم قدرتهم على النظر إلى الحياة السابقة ليتجنبوا الوقوع في مزيد من البربرية والتوحش، وكأنه يريد أن يخبرنا أن الالتفات للماضي، هو الفعل الوحيد القادر على تجاوز لحظة الشر، والتشبث بالغرور والأنانية، وكأن العالم إذا انفصل عن الماضي، يؤدي إلى السديم، وإلى لحظة القيامة التي تُظهر الإنسان وهو يعاني من التشرد في عالم اكتسحه الجليد.