من يقول البرازيل فإنه يتحدث عن الكرة، ومن يبحث عن دلالة للكرة في قاموس السياسيين فيجده “عفيون الشعوب”، وتوظيف الساسة للكرة يأخذ طابعا شعبويا أكثر منه رياضيا، لأن الكرة وحدها قادرة على جعل العالم بأكمله يجتمع حول هدف واحد ويتحدث نفس اللّغة. ما يحدث في البرازيل اليوم من احتجاجات غير مسبوقة في عز منافسة كروية عالمية تحتضنها بلاد “الصامبا”، يوحي بأن البلد الذي ترعرعت فيه اللعبة الأكثر شعبية في العالم “كفر” بالكرة ولم تعد اليوم “العفيون” الذي يمكن للساسة، من خلاله، إخماد نار الفتنة، والتغطية على عورات التسيير البيروقراطي والأوضاع الاجتماعية المزرية. البرازيل اليوم لفتت انتباه العالم، وشعبها يقول “الكرة لا تسمن ولا تغني من جوع”، ثم يصرّ على تصدير معاناته وليس نجومه، من نافذة منافسة “الفيفا”، إلى كل الشعوب التي تعاني الجوع والفقر والحرمان، تلك الشعوب التي تنسى آلامها وتمسح دموعها تحت تأثير تخدير الكرة، ليقول البرازيليون بصوت واحد بأن “مفعول عفيون الشعوب” انتهى اليوم وعلى الساسة إيجاد ما يضمن للشعوب حياة كريمة وهم يخاطبون عقولا تخلّصت من الإدمان. لا أعتقد بأنه يوجد أخطر للمتاجرين بعقول وبطون المساكين من الناس، من “حضور عقل” المدمنين من الناس بعد تغييبه طول الدهر بالكرة وبآثارها، فنظام حسني مبارك في مصر سقط بسبب اندثار آثار ما فعلته الكرة بعقول “الفراعنة” لسنوات، وكسبت الجزائر سياسيا، مقابل ذلك، نقاطا ثمينة خدمت مسعى العهدة الثالثة، وهي اليوم توظف الكرة بمفعول المونديال الرابع لتخدير العقول عن العهدة الرابعة بلمسات فنية ساحرة. ثم إن نجوم الكرة من البرازيليين الذين نشأوا بدورهم في أحياء الفقر والحرمان، لم يحرجهم موقف الشارع المنتقد لما تدره الكرة عليهم من مال، فوقف هؤلاء مع “الغلابى” من الناس للقول بأن “الشارع” أصدق أنباء من “الساسة”، وبأن جعل الكرة وسيلة لإسكات البطون هو احتيال وتعسف وسرقة لآمال وأحلام الشعوب، وانتهاك لحقهم في العيش وفي الكرامة. أتساءل عن موقف ساستنا اليوم مما يحدث في البرازيل، فهم يتضرعون، دون شك، للمولى جلّ شأنه أن تغيب عقول الجزائريين وتظل تحت مفعول “العفيون”، حتى لا تفهم فحوى الرسائل القادمة من “ريو ديجانيرو”، وحتى لا تنتقل “عدوى الربيع الكروي” إلى القارة السمراء أو ألاّ يكون مفعولها مثل مفعول أنفلونزا الطيور والخنازير، فتحرّك الشارع بالشكل الذي لا يمكن له، بعد ذلك، تخديره. الجبهة الاجتماعية “المشتعلة” في الجزائر منذ سنوات وموجة الاحتجاجات المتصاعدة، لن يكون لها تأثير فعّال إلا إذا كانت شرارة مطالب الجزائريين قد انطلقت من الكرة أو بسببها، وما يحدث في البرازيل صورة طبق الأصل لما يحدث في الجزائر، فالأموال “ترشق” بجنون على الكرة وعلى المستفيدين منها، والشعب يعيش إلى حد الجنون الفقر والبطالة، مع فارق واضح ومهمّ بين الجانبين، ففي البرازيل توجد كرة ساحرة فعلا تم لفظها، وفي الجزائر لا يوجد من الكرة لا ساحر ولا مسحور.