تبدو شوارع العاصمة في أيامها الرمضانية وكأن سكانها قد دخلوا في سبات عميق فلزموا بيوتهم أو مقرات عملهم بخلاف باقي أيام السنة فلا يغادرونها إلا للضرورة القصوى وهم يجرّون الخطى جرا، غير أن المشهد ليس نفسه ليلا، فما إن تغيب الشمس و"يذهب الظمأ وتبتلّ العروق”حتى تدبّ فيهم الحياة. ❊ تبدو شوارع العاصمة في أيامها الرمضانية وكأن سكانها قد دخلوا في سبات عميق فلزموا بيوتهم أو مقرات عملهم بخلاف باقي أيام السنة فلا يغادرونها إلا للضرورة القصوى وهم يجرّون الخطى جرا، غير أن المشهد ليس نفسه ليلا، فما إن تغيب الشمس و"يذهب الظمأ وتبتلّ العروق”حتى تدبّ فيهم الحياة. “الخبر” رصدت السامرين في فضاء “أرديس”، أحد أهم الأماكن التي تتوقف فيها بوصلة الساهرين منذ بداية شهر الصيام. فكّرنا ونحن في طريقنا إلى المكان أننا سنكون أول الواصلين، فالإفطار كان قد مضى عليه نحو ساعة فقط، وأذان صلاة العشاء لم يرفع بعد، لكننا اقتنعنا أن المشهد ليس كذلك، حتى قبل ولوجنا لموقف المركز التجاري، فمئات السيارات كانت قد حجزت مكانها قادمة حتى من الولايات المجاورة على غرار البليدة وبومرداس، حسب لوحة ترقيمها، كما بدأت الجموع البشرية تجوب المكان وكأن سكان العاصمة قد استيقظوا في وقت واحد. كرّ وفر بين الأمن والبائعين الصغار غير بعيد عن مدخل المركز التجاري، اصطف عشرات الأطفال والمراهقين يستعرضون بضاعتهم التي لا يمكن أن تمر أمامها مرور الكرام دون أن تمتد يدك إلى جيبك لتخرج 100 أو 200 دينار. فهؤلاء “الصغار” الذين لم يقصدوا المكان للترفيه كأقرانهم، أجادوا لعبة الإبهار وفن البيع دون دراسة “الماركتينغ”، إذ صنعت ألعابهم الضوئية الفرجة وجدبت إليهم الأطفال المرافقين لعائلاتهم. ألعاب ضوئية، بالونات، أقنعة تحاكي أفلام شهيرة، تلك هي بضاعة يوسف، فيصل، محمد وآخرون، أغلبهم مراهقون من سكان الأحياء المجاورة على غرار الكثبان، وهم زملاء في الثانوية وكلهم في الشعبة العلمية. بخلاف يوسف الذي أنهى دراسته قبل شهر من جامعة باب الزوار، ويحضر للماستر الموسم الجامعي المقبل. وجدنا صعوبة في الحديث إلى البائعين، ليس لأنهم رفضوا الكلام، لكن لأنهم كانوا في عملية كرّ وفرّ مع أعوان الأمن الذين منعوهم من عرض بضاعتهم، وما إن غاب هؤلاء ردد أحدهم “اهبطوا لاسيتي” ففهمنا أنها الشفرة التي تعني أن المكان آمن “حبّونا نسرقوا...حنا زوالية نبحث عن مصروف لشراء ملابس العيد” يقول فيصل. ويحجز البائعون مكانهم بعد تناول إفطارهم بسرعة، على غرار محمد القادم من المحمدية، “نسترزق بدنانير قليلة، نحن لا نقلق أحدا، ورغم ذلك تطاردنا الشرطة وأعوان الأمن طيلة السهرة”. تركنا المكان إلى الفضاء المقابل للواجهة البحرية، ففي تمام العاشرة ليلا لم يكن هناك مكان شاغر، فكل الكراسي حجزت من قبل العائلات التي فضّلت الاستمتاع بجلسة شاي وقهوة ب"المجان”، فكل الطاولات زيّنتها أباريق الشاي والحلويات الرمضانية، وحتى الشباب الذين أخذوا أماكنهم مبكرا لم ينسوا حصتهم من “قلب اللوز” والقهوة. استوقفتنا إحدى العائلات حجزت طاولتين “فالعائلة الكبيرة كلها حجت إلى المكان” يقول رب الأسرة العم محمد، حيث قدم رفقة زوجته وبناته وزوجتي ولديه وأحفاده الذين راحوا يلعبون غير بعيد عنه بالطائرات الورقية. العم محمد قدم من الخرايسية جنوب العاصمة، اختار وجهته للسهر لأن لا مكان مناسبا في المنطقة التي قدم منها على حد قوله، مواصلا: “ثم لضمان جلسة عائلية في مكان محترم وآمن عليك أن تدفع الكثير، فلا مكان حتى لتوقيف السيارة بالمجان”. غير بعيد عنهم جلس زوجان رفقة طفليهما، شاركانا الحديث ونحن نكلّم العم محمد، وعلمنا من الزوج أنه قدم رفقة عائلته من البليدة، مردفا: “انطلقنا بعد تناول وجبة الإفطار مباشرة، تنقّلنا لاقتناء تذاكر السيرك، لكن يبدو أن ذلك صعب، فالتذاكر نفذت”. والكثير من العائلات رغم عدم تعارفها، اجتمعت حول طاولة واحدة، وحوّلتها إلى جلسة بوقالات، على غرار عائلتين إحداهما من الحراش والأخرى من باب الوادي، كانت جلستها نسائية بامتياز، فالأزواج غادروا لصلاة التراويح والأطفال للعب، بينما دخلت النساء في منافسة بوقالات. ولأن أغلب الطاولات حجزت، وجدت العائلات التي وصلت متأخرة ملاذها على الصخور القريبة من البحر، ومنهم من أدى صلاة العشاء بالمكان، فرغم خروجهم من البيت مبكرا، إلا أنهم لم يوفقوا في حجز مكان على الطاولات. الشامي يجتمع بالمغربي "إيش لمّ الشامي على المغربي” مثل شائع في البلاد العربية يقال عندما يجتمع اثنين لا علاقة بينهما، غير أننا وقفنا على غير ذلك في جولتنا بالمكان، فالعديد من العائلات السورية التي غادرت بلادها منذ بداية الأزمة الأمنية حجزت لها مكانا إلى جانب العائلات الجزائرية، ولولا لسانها الشامي كنا حسبناها من أهل البلد. استوقفتنا عائلة أبو غياس بلهجتها الحلبية ولم تجد مانعا أن نقاسمها جلسة الشاي، وهي تسترجع مع كل رشفة ذكريات “الشهباء” الاسم الذي تعرف به مدينتهم، ولو أن الشاي أخضر وليس أحمر مثل الذي تعوّدوا عليه في سوريا على حد قول أبو غياس الذي كان مرفوقا بزوجته وأطفاله الثلاث وشقيقته، إلى جانب عائلة مواطنه أبو ياسين. وعن اختيارهم المكان لقضاء سهراتهم الرمضانية، قال محدثنا أنه تعوّد وعائلته على زيارته منذ بداية الصائفة، ووجده مناسبا لاستراق لحظات “فرحة فقط من أجل الصغار الذين تعبوا من أخبار الموت والدم الذي ينزف في بلادنا”. وواصل محدثنا قائلا: “في سوريا تعوّدنا على أن نقضي السهرات خارج البيت بعد صلاة التراويح، وكثيرا ما نفطر خارجا مع العائلة والأصدقاء، نفتقد تلك الأجواء ونحن نحاول تعويضها هنا، ثم قليلة هي الأماكن المفتوحة على الهواء الطلق هنا في العاصمة ووجدنا أن هذا أنسبها”. قاطعه صديقه أبو ياسر وهو ينبّه ولديه ياسر ولؤي ألا يبتعدا عن ناظريه “المكان واسع وآمن وهو قريب من البحر أيضا، وهو أكثر ما يحبه الأطفال، نسيم البحر يذكّرنا بشواطئ اللاذقية ولو أن المكانين لا يتشابهان”. وأجمع محدثونا أنهم وجدوا أيضا كل الترحاب من العائلات الجزائرية “كثيرا ما يقتربون منا ما إن ينتبهوا أننا من سوريا، ويتمنّون أن يعود الأمن إلى الشام.. حقا هنا نشعر أننا بين أهلنا” تقول أم غياس. وبالقرب من العائلتين جلس مجموعة من الشباب يلعبون الدومينو، دون أن تجد العائلات حرجا في أن يجلس الشباب بينهم “ماداموا يحافظون على احترامهم” على رأي أحد الجالسين. وفي حديثنا إليهم عرفنا منهم أنهم قدموا من حي القبة وبأنهم اختاروا المكان للسهر منذ بداية شهر رمضان هربا من الزحمة التي يعرفها حيهم، يقول محمد “يحج الكثيرون ليلا إلى القبة لتناول المثلجات أو تناول وجبة السحور، وهو ما حوّل الحي إلى طابور زحام لا ينتهي، لكننا وجدنا راحتنا هنا، فالمكان رحب وفنجان شاي ومكسرات فقط كفيلين بضمان السهرة. العديد من زوار أرديس حجزوا مكانهم في انتظار بداية العرض الثاني ل"سيرك عمار” الذي يبدأ في منتصف الليل بعد العرض الأول الذي بدأ في ال10 والنصف، غادرنا المكان على مشهد طابور طويل للمتوافدين على السيرك ممن فاتتهم بداية الوصلة الأولى رغم وصولهم في الموعد بسبب الإقبال الكبير في وقت واحد.