التاريخ القديم لروما العظيمة فيه دروس لإمبراطورية وجّهت الصراع، بموجب إرادتها، في الاتجاه الذي تريده بقدرتها في حفظ الحرية، محافظة على المدينة من الانهيار. لقد أرست نظاما دعمّت به المدينة حتى لا تنهار، كان تنظيما مخططا حافظ على البناء السياسي ووقاه الانهيار، والمجتمعات الأوروبية أخذت العبرة من تراثها، فهل أخذنا نحن العبرة مثلهم؟ لا نسمع اليوم بالمدافعين عن حقوق العامة، لأن البرجوازية تمددت كعفريت مخيف بعد خروجها من القمقم؛ فالأرستقراطية صارت مطلب الجميع، إما انتفاعا بها أو طموحا لها أو قبولا بالعمل تحت سلطتها رضا بالاستعباد الجديد. هل يوجد مجتمع مدني حقيقي يفرض على الدولة اللجوء إلى قانون تفرضه على الجميع؟ هل هناك مشاركة سياسية؟ أليست المصالح هي لبس قضايا الأمة؟ هل نواب الشعب يحتكّون بالعامة بصفة مباشرة، وهل هناك توافق حقيقي بينهما؟ السلطة الحقيقية هي امتزاج الفاعلين الأثرياء والفقراء ولطبقات المجتمع خدمة لأهدافها، لأنها تجد في مصلحتها ما يحرّكها إلى الدفاع عنه، بإشراكها لهذه الطبقات. وإن الأحزاب اليوم كبنية سياسية تختفي في قناع المعارضة تتبجّح بالإصلاح، وبأنها جهاز محاسبة، متورّعة بادّعاء المحافظة على قدرة الفعل في التغيير، لو ما أعطيت لها الأصوات، لكنها تتخلى عن الفعل بمجرد وصول المفعول لأجله (الامتيازات). هل عندنا برلمان فعّال يكون مزيج أرستقراطيين وديمقراطيين وأناس عاديين يدافعون عن العامة؟ هل عندنا حكومة مختلطة تحافظ على النسيج الاجتماعي؟ مرنة تقبل المشاركة؟ هل أخذت السلطة بأولوية التصدي لصراع جديد يمثله الفساد، في ظلّ غياب التطبيق الفعلي للقوانين الردعية، وفي ظل غياب إصلاح حقيقي؟ هل هناك استعمال حكيم للسلطة؟ هل هناك وعي حقيقي لنواب الشعب؟ هل هناك صراع حقيقي بين الأحزاب حول مشاريع اقتصادية وسياسية، أم مجرد صراع متوهم، نتائجه محبطة وقاتلة سياسيا؟ لماذا العامة لا تمارس ضغطا على الأحزاب لتحدد وظيفة المنتخب عليهم؟ تغيب العدالة والمساواة في ظل النائب المتحزب البرجوازي، دون أن يسأل من أين له هذا، في ظل تجارة سياسية لا تحتاج إلى معارضة، بقدر أداء وظيفة التحريض على الانتخاب لأجل الوصول إلى الثروة المنتظرة دون الاهتمام بمصلحة العامة؟ إن الأحزاب التي لا تملك الإصلاح في برنامجها تريد الانتفاع بالامتيازات المأخوذة، ولا تختار الكفاءة والفضيلة في وجود المال، لا يهمّها تمثيل الشعب، لأنه في النهاية “غاشي” على حد وصفها، خسرت أو انتصرت؛ في النهاية لا يسرها الأمر كيفما كان. إن التيارات السياسية لا تجد، اليوم، العلاج الشافي لنفسها ولمناضليها ولقاعدتها، وهي في حرب مع المنشقين والمناوئين والطامحين للامتيازات والمتنقلين والمتبدلين، الحرب النفسية والسياسية، وفرقاء لا يوثق بهم عند العامة أينما حلّوا وأينما ارتحلوا، فكل الفرق اللاعبة ستصير تابعة لقيصر سياسي، دون شك، وما أكثر قياصرة السياسة في البلاد ولا شيء يعود للّه. علمتنا التجارب، في ظل المعاناة وهشاشة الأحزاب، أن كل رئيس حزب هو مستبد وملكي أكثر من الملوكية، وتحوّله هو ونوابه إلى مستبدين بات أمرا محسوما. وأنا، كمواطن، أبحث عن شروط قيام الحرية، بعيدا عن التحزب الأناني الذي يعيق مساعدة الدولة والجمهورية والعامة على التكيف مع الظروف المتغيرة المحيطة بنا. ليس عيبا أن يكون النائب نزيها وغنيا، لكن العار تحوّله إلى لص. آمل في نائب يتخلى عن ولائه ومصلحته، يتنازل عن خدمة من وضعه في ذاك الترتيب، وأن يكون ولاؤه للدولة و«المواطنين”. إن المرض قد ظهر في السلطة، وانتقل إلى العامة، وبروز مواطن سلبي على حساب مواطن إيجابي حقيقي لا يخجل في الدفاع عمّا يؤمن به، بل يخلق لنفسه أسباب التأكيد والحضور لذاته تأكيدا وجوديا. إننا نحيا في وطن واحد وعلى أرض واحدة، لذلك يجب أن يقبل أحدنا بالآخر. ننتقد أنفسنا والآخرين واضعين مبدأ المحاسبة والعدالة في حدود القانون واحترامه، والعمل على البديل، واضعين في الحسبان أن الدولة لا تعترف بمن هو فوقها. وكما قال سقراط يجب احترام قوانين الدولة، ولو كانت مستبدة.. لكن قوانين تطبق على الجميع.