بعد استحداث وزارة الخدمة العمومية ضمن الجهاز الحكومي الأخير، والتي تصبّ في إطار الاهتمام بانشغالات المواطن وتخفيف عبء البيروقراطية. وفي أول خطوة في هذا الصدد قام الولاة بتنصيب لجان الخدمة العمومية، تتكوّن اللجان المنصّبة من رؤساء دوائر وموظفي الإدارة من البلديات والدوائر، وغيرها من الإدارات والهيئات العمومية، لنصل بذلك إلى المقولة الشعبية ”اللعّاب حميدة والرشّام حميدة”. أليس من منطق الأشياء أن من حال دون تخفيف المتاعب على المواطن واتخاذ المبادرات الضرورية لرفع الغبن عن المواطن، هو من كُلّف بتقويم نفسه والقضاء على أفعاله التي عاش بها وتطبّع عليها وألفها، كما أن تنصيب لجان من هؤلاء الذين كانوا على رأس المكاتب والهيئات الإدارية يعني بقاء الحال على حاله وأصبح المشكو منه مشتكى إليه. إن نية المشرّع والدولة نية سليمة في مسعاها لإصلاح المنظومة الإدارية والخدمة العمومية، لكن تعوّدنا أن نملك أحسن ترسانة قانونية، وننتج أسوأ تطبيق للقوانين مما يجعل الهدف من تأسيس هيئة أو سنّ قانون غير متاح تطبيقه، كونه ينزل من القمة إلى القاعدة في الأيدي نفسها التي أنشأ من أجل محاربتها. بينما كان من المفروض أن تكون لجان الخدمة العمومية من أخصائيين وأساتذة جامعيين ومفكرين ومشرعين ومن ممثلي المجتمع المدني ذوي الخبرة والكفاءة، ليكون العمل ضد البيروقراطية ويتمّ ترشيد العلاقات بين الموظفين والمواطنين وإصلاح الوثائق الإدارية. كما كان الأجدر إعادة النظر في القانون الإداري، وخاصة الحالة المدنية والفصل في معنى كلمة الحالة المدنية التي تسمى بالاسم نفسه، ولها مصالح بالبلديات وبالدوائر وبالمحاكم كتصحيح الاسم وشهادة الجنسية التي أصبحت تكلف الجزائري الجنسية وثائق ووقت وأموال أكثر من طالب الجنسية الجزائرية الجديد. ألسنا بحاجة ماسة لرفع القيود على الموظف والمواطن معا في شق الإدارة والوثائق ومنح الضابط العمومي المكلّف بالحالة المدنية صلاحيات تكييف الأوضاع والحالات المطروحة عليه وفق ما يراه مناسب، ويتخذ القرار اللازم بإمضائه وختمه وتحت مسؤوليته، فكيف لمواطن ورد خطأ في لقبه العائلي أن يرفع قضية تصحيح الوثيقة وله كل الوثائق الأخرى بالاسم الصحيح. حتى إنه في الشهادات الممنوحة بمصالح الحالة المدنية، التي تمضى من قِبل رئيس المصلحة أو العون أو المنتخب هي ذات شكل عام تستعمل لكل المواطنين ويمكن كتابة اسم من أنجزها ويمكن لا، وبذلك يقع التغليط والتزوير، بينما في دول أخرى نجد وثائق الحالة المدنية كلها تحرر وتبدأ أو تنتهي بعبارة: ”نحن الممضين أسفله السيد.... بصفته.... أشهد أنه....”، أي أن الوثيقة تحمل تصريح الموظف المنجز لها والممضي أسفلها باسمه وصفته، وفي حالة اكتشاف غير ذلك عرف المخالف والمزور. فإذا تحدثنا عن الإدارة بمفهومها الشامل فنجد أن المواطن يقضي شهرا من السنة في طوابير الإدارات من أجل وثائق تستخرج من مكتب ضابط عمومي لتودع لدى مكتب ضابط عمومي آخر، وكأن الأمر انعدام الثقة بين الموظفين، فالدائرة تطلب وثائق من البلدية وحتى المصادقة على نسخ طبق الأصل، والمصادقة على الإمضاء ويتم إيداعها بمصالح الدائرة، وخاصة في مصالح الحالة المدنية بالدائرة التي هي الهيئة الوصية على البلدية، ناهيك عن شهادة ميلاد الأصلية، وكأن الدفتر العائلي غير أصلي أو وثيقة مشكوك فيها، رغم أنها تحمل رقم الحالة المدنية لسجل الميلاد، وبطاقة التعريف الوطنية تحمل العنوان ولا يؤخذ بعين الاعتبار، لأن المواطن قد يغيّر السكن، وشهادة الإقامة لها ثلاثة أو أربعة أنواع، خاصة بجواز السفر، وببطاقة التعريف الوطنية، أو خاصة بملف إداري.. حتى فواتير الاستهلاك من غاز وكهرباء وماء تتطلب الطوابير، ألا يكفي أنك مواطن صالح تسعى برجليك إلى دفع الأموال للشركة، بل عليك أن تنتظر وتنتظر لتمنحهم الأموال، وربما لا يجد العون القابض ”الصرف”، ويطلب منك الخروج للبحث عن ”الصرف” وهذا حتى في مكاتب البريد! ونحن على مشارف نهاية سنة 2013، وننتظر بشغف إطلاق تقنية الجيل الثالث، إلا أن إدارتنا لا تكلف نفسها عناء رفع سماعة الهاتف الثابت عندما يتصل المواطن، وإذا قدّر اللّه ورفعها العون المكلف بتوزيع المكالمات أجابك مباشرة وقبل أن تذكر الشخص أو المسؤول الذي تريد التحدث إليه أنه غير موجود، خرج، إنه في اجتماع. إنها واللّه جرأة ما بعدها جرأة أن يترك الهاتف يرنّ لساعات دون حرج ولا حياء، لمجرد تفادي العمل، أو بأمر من المسؤول، وإذا كان خائفا من عواقب فعلته تجده يسألك من أنت أو من أين تتصل ليعرف أن كنت شخصية تحترم، أو مواطن عادي ليرسلك إلى المجهول. إدارة لا تعرف معنى الهاتف وأهميته في طمأنة المواطن، هي فاشلة و مآلها الانهيار. إن ما نراه ونسمعه ونتابعه على مستوى كل الإدارات، إلا ما رحم ربي، يعبّر عن إرادة بعض الموظفين الإداريين في فرض طريقة معينة على المواطن، ليحتفظ ذاك الموظف بمنصبه ويجد تبريرا لتعبه واستيائه من كثرة العمل، ناهيك عن فقدانه للطرق المثلى والعصرية لتنظيم العمل وعدم نقله لمعاناته ولا لمعاناة المواطن إلى المسؤول الأول. نحن بحاجة إلى التدخل المدروس لإنقاذ الموظف من نفسه ثم إنقاذ المواطن منه، بحيث إن التكوين الصحيح للموظف يبدأ بالتكوين النفسي المفعم بحب الوطن واحترام المواطن، وإدراك أن سبب حصوله على الوظيفة هو خدمة المواطن لا إرضاء غرائزه أو مرؤوسيه.
نكتة البيروقراطية في الجزائر يجب عليك أن تعرف على الأقل موظفا في كل إدارة عمومية أو تعرف من يعرفه، أو تعرف أين يسكن لتزوره في حيه وتطلب منه شهادة ميلاد، وعليك الصبر على ما يلفظ به من عبارات جارحة، أما إذا كنت من أعيان المنطقة، وطلبت منه عبر الهاتف أو مباشرة فتأكد من أنه سيقول لك ”ما كانش مشكل في المساء أمر عليك وآتيك بالوثائق روح متهني”. كل آليات الرقابة مجرد إجراء شكلي لا يغني ولا يسمن من جوع، لأن الرقابة التي تفرض لساعات أو لزيارات يمكن التحضير لها، وإعطاء الصورة المغايرة للواقع أمر أبسط من الإمساك بفرشاة طلاء أبيض على جدار أسود. كما أن كل الهيئات المحلية أو الولائية لا يمكنها إلا قبول التحريف والتزييف من قمتها إلى قاعدتها، لأنه بكل منطق وجود أي تهاون أو إخلال بالشأن العام يمس المسؤولين من الوالي إلى رئيس البلدية، وبالتالي لا يرضون أن يوبخوا من قِبل الوزير أو المراقب، ويساهموا بفاعلية في طلاء الأسود بالأبيض وافتراض وجود هياكل وإنجازات في الحقيقة عديمة الوجود. ومن طرائف التحريف والتزييف في الإدارة الجزائرية أن يستدعى إلى التلفزة أو الإذاعة أو الملتقيات رئيس مصلحة أو مدير إدارة أو مسؤول هيئة، ليتحدث عما تم إنجازه بمصلحته والمجهودات الجبارة التي بذلها ويبذلها والأفاق التي يسعى لإنجازها، والمقولة الشعبية الجزائرية: ”حوحو يشكر روحو”.. هل وصلت البلادة بنا إلى تصديق ما يقوله ونحن نعلم أنه يكذب ويكذب ويكذب، ويرى الإنجازات عظيمة بنظاراته وفي الواقع لا يمكن رؤيتها حتى بالمجهر. من الموضوعية أن لا ننكر إسهام المواطن في هذه السلبيات، ونقول إنه هو من علّم الموظف الرشوة والمحسوبية، ”المعريفة” و«البيستو”. لكن مجبر أخوك لا بطل، وتماشيا مع ظروف فرضت عليه لتفادي تعطيل مصالحه ويجد الأمر لا يستحق أن يحاربه في معركة تذهب بوقته وماله وسمعته، ولا ينال منها إلا التعب والكلل. الخدمة العمومية لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يتم تقييمها أو مراقبتها أو تطويرها أو إصلاحها من قِبل أحد طرفي المعادلة في غياب الطرف الآخر الذي هو المجتمع المدني، الذي غيب في جهاز وهيئات اللجان المنصّبة عبر الولايات لإصلاح وتطوير الخدمة العمومية والمتكونة من الأشخاص أنفسهم الذين زاولوا ومارسوا الخدمة العمومية على الطريقة الفاشلة التي أنشأت من أجل محاربتها هذه الوزارة، وبذلك نكون أهملنا الطرف المهم الذي يلعب الدور الأساسي في القضاء على البروقراطية والرشوة والمعريفة.. بكل بساطة نقول المثل الشعبي ”واش يعمل الميت بين يد غسّاله؟”، وماذا يغيّر المواطن الممارسة عليه البيروقراطية والرشوة والمعريفة في طريقة عمل دامت 50 سنة ولحظة الوصول إلى استحداث وزارة خاصة بالخدمة العمومية لرفع الغبن عنه، وتثبيت هؤلاء أنفسهم لمراقبة ومحاسبة وتقييم وتطوير أنفسهم، فلماذا لم يبادروا لفعل ذلك قبل اليوم، لأنهم باقون لما بعد اليوم ويلعبون وحدهم في ملعب الإدارة العمومية.