الضرورة تقتضي اعتماد إستراتيجية تنموية شاملة للوصول إلى اقتصاد متنوع وتنافسي اعتبر المدير التنفيذي ومسؤول بنك الاستثمار بدبي وخريج المدرسة العليا للتجارة بباريس، محمد غوالي، أن حصيلة مشاريع دعم النمو والإنعاش لم ترق إلى المستوى المأمول، حيث قامت الجزائر بضخ 400 مليار دولار لتحصل على مستويات نمو بأقل من 5 في المائة خلال العشر سنوات الماضية، مشددا على حاجة الجزائر لاعتماد إستراتيجية تنموية شاملة لضمان إرساء اقتصاد متنوع وتنافسي على المدى القصير. ما هي قراءتكم لانخفاض قيمة صرف الدينار الجزائري؟ لن آخذ نفس سياق التحاليل المقدمة من هنا وهناك. فإذا كان ذلك هدفه الحدّ من الاستيراد فما هو إلا هباء منثور، لأن حجم الطلب لا يزال دائما مهما والسيولة موجودة بوفرة، فالعرض لن يجف. ويبقى أثره هامشيا في رأيي على الاستهلاك المحلي. بهذا فالمستهلك سيفقد قدرته الشرائية، ولكن التعديل المتكرر في الأجور يعوّض نسبيا ذلك. أما فكرة امتصاص الكتلة النقدية المتداولة فالانخفاض في حدّ ذاته غير كاف، وكان يجب مرافقته بتدابير دعم أخرى لتجعله أكثر فعالية. فمن جهتي، أعتقد أن هذا التخفيض لقيمة الدينار هو جزء من سياسة التعديلات التدريجية لتلبية معايير الاندماج في المنظمة العالمية للتجارة. علينا ربط هذا كله بالقرارات المعلنة كخوصصة ”كوسيدار” والقرض الشعبي الجزائري و«موبيليس”، وكذا تحضير الرأي العام لوقف دعم المنتجات الأساسية. بمعنى آخر لن تكون هناك مفاجأة إذا حدث انخفاض آخر للدينار في ال24 شهرا القادمة، وهذا لتكملة التعديلات السالف ذكرها. تواجه الجزائر تحديات كبيرة كونها مصدّرة لمنتوج وحيد هو المحروقات، كيف يمكن تفسير هذا الوضع؟ هذه الوضعية التي بموجبها تعتمد الجزائر في مداخليها على 98 بالمائة من تصدير المحروقات، وكذا 67 % من عائدات الضرائب على المنتج نفسه نعيشها منذ أكثر من 30 سنة. تزامنا مع التبعية الغذائية المتزايدة للبلدان الأجنبية، وفي كل مرة يكون هناك تشييد لبنية تحتية جديدة دون تفاوض على تحويلات تكنولوجية كافية، هذه الحالة تؤدي إلى ضعف المقاومة لأي نوع من الأخطار. وبعبارة أخرى هناك عدم توافق في تعاملاتنا مع العالم وهذا ما يؤثر على مصالحنا. ونتيجة لهذا كله، فإن الجزائر قد تكون لا تمتلك إلا القليل من الركائز المتينة لمواجهة أو موازنة القوى الجيوسياسية والجيواقتصادية الخارجية التي ترمي إلى إعادة رسم خارطة المنطقة على المديين المتوسط والطويل .إلا إذا كانت هناك مقاطعة مستعجلة وملموسة ميدانيا لكل السياسات التي استعملت حتى يومنا هذا، فيصبح أكثر فأكثر تجسيد الظروف الملائمة لنشأة ازدهار دوري واستقرار اجتماعي دائم، مستقلان عن المحروقات، صعبا وغير مؤكد. ما هي العوامل التي ساهمت في هذه الوضعية، وما انعكاساتها؟ تاريخيا، ومنذ 1980، كل الحكومات التي تعاقبت أخفقت أو لم تتمتع بالإرادة السياسية لتحديد نظرة مستقبلية وأهداف طموحة، والتي من دونها فإن فأي برنامج مآله الاندثار. فدون طموحات كبرى لا تكون هناك إستراتيجية ولا تنسيق بين المشاريع، وبالتالي لا نجاح. لكن هذا لا ينفي نهائيا وجود نظرة مستقبلية في السبعينيات من أجل جزائر حديثة ذات اقتصاد متنوع مبني على الاستثمار في الطاقة البشرية، وعلى الشراكة مع الدول المتقدمة: ألمانيا، اليابان، الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي.. الخ، لكن هذا المشروع توقف في مرحلة النمو. ولقد كانت سنوات التسعينيات خط النهاية لهذا المخطط الذي شرعت الجزائر في وضع أسسه في العقد الأول من الاستقلال، بعيدا عن قطاع المحروقات (وهذا ما نهمله دائما). وما زاد الطين بلة إرغام الآلاف من الإطارات السامية والكفاءات الجامعية على الهجرة إلى الخارج، أغلبهم مختصون في الرياضيات والفيزياء والإعلام الآلي والطب، وهي الاختصاصات التي تبنى عليها المنافسة العالمية ما بين الأمم، فقد تسببت العشرية السوداء في القضاء على ما تبقى من الطموح الجزائري. فأي وطن من دون نخبته (كمّا ونوعا) مآله الزوال. منذ ذلك الحين ونحن نحضّر لمزيج من الليبرالية و«الكينيزيانيسم”، كما يقول المثل ”كل يوم على حال” لم ينتج عنه سوى أهداف إستراتيجية قصيرة المدى. وهذا ما يفسر نوعا ما عدم استطاعة الجزائر في أحسن الحالات ورغم مئات مليارات الدولارات المستثمرة سوى التفاوض على تراخيص التصنيع، في وقت أن ما خلّفته الأزمة الاقتصادية عبر العالم كان ليجعلها في موقف قوة تقوم من خلاله بجلب التكنولوجيات والمعارف الحديثة في شتى المجالات. ساهمت السياسات المتّبعة منذ سنوات في إلغاء مظاهر التصنيع وتنامي السوق الموازية. ما هي البدائل المتاحة لاستعادة التوازن للاقتصاد الجزائري؟ من خلال تجربتي، وحدها إستراتيجية تنموية شاملة ستسمح للجزائر بالحصول على اقتصاد متنوع الإنتاج وتنافسي في أقرب وقت. هذه الإستراتيجية يجب أن تكون ذات أهداف واضحة، قابلة للتحقيق وللقياس، تتمحور حول مشاريع متناسقة، مترابطة فيما بينها، يكون تطبيقها خاضعا لخطط عملية مضبوطة ومقاييس كفاءة صارمة ودقيقة. دعني أوضح ذلك: لو أن رئيس الجمهورية يتخذ القرار- وذلك ما سيستحق عليه التحية- بخلق حالة استعجالية حول الهدف الذي هو تخفيض الاعتماد على قطاع المحروقات إلى أقل من 50% على أفاق 2020 .وحده، هذا القرار سيكون أساس التحوّل المحوري في هندسة التنمية الوطنية. وسيضمن الانتقال من ازدهار مبني على تسيير مداخيل المحروقات إلى اقتصاد وازدهار مبنيين على تسيير المنافسة والاختراع. هذا الهدف لا يتحقق إلا بتوفير ثلاثة عناصر منفردة بخصوصيتها، ولكن مكمّلة لبعضها: أولا: حشد المواطنين حول أهمية التحوّل الجذري لكن التدريجي للإدارة، بل ويتعداه إلى تحوّل المجتمع. هذا ما سيساهم في ترسيخ فكر ذي ثوابت متينة لمحاربة الظواهر الاجتماعية الدخيلة على مجتمعنا. ثانيا: تشييد محيط تنافسي حقيقي يستند إلى تسيير الاقتصاد الكلي بدقة، بانضباط وبذكاء، بالأخص في سياستي الضرائب والنقد؛ نظام سياسي ثابت وشفاف، عدالة عادلة، نظام تربوي اجتماعي وثقافي فعال. ثالثا: تحديد الصناعات والقطاعات (الموجودة أو تستلزم إنشاؤها) التي ستساهم كل منها حسب خصوصيتها، هذه الأخيرة تصنّف وفق المقاييس التالية: نموها، توفير مناصب الشغل، تنافسيتها وتموقعها الجغرافي، وكل هذا في سبيل تحقيق الهدف. هذا عمل يتطلّب نفسا طويلا يتعدى التطبيق الأعمى للنظريات الجاهزة. ويحتاج لأفكار جديدة مكيّفة وخصائص الجزائر في كنف إقليمها وموقعها العالمي. والأهم في كل هذا يتحمّل تطبيقه خبراء مؤهلون ذوو خبرة ومبادئ. حتى التجارة الفوضوية ستكون مدرجة في هذا المخطط التنموي بحيث يحافظ على مرونتها، لكن مع توجيهها إلى التركيز على الإنتاج الوطني من خلال التحفيز والتشجيع. هذه الإستراتيجية التنموية ستجد الطريقة الأنجع لتنويع الاقتصاد الجزائري باحتوائها على حلول طموحة، واقعية، متناسقة ومتفاعلة فيما بينها. والدليل على هذا أن بعض البلدان النامية أو تلك التي في طريق النمو بانتهاجها سياسات مماثلة أصبحت تمتلك اقتصادات قوية وتنافسية، من خلال استغلالها الجيد للفرص المتاحة من قِبل العولمة، نذكر على سبيل المثال: أندونسيا، المملكة العربية السعودية والبيرو. على ذكر ذلك، فأنا بصدد الانتهاء من تحضير كتاب يشرح كيفية تصور وتطبيق هذه الإستراتيجية. كيف نفسر أن قرارات تحرير التجارة والاقتصاد لم تحقق النتائج المرجوة، والأمر نفسه بالنسبة لمسار الخوصصة؟ بما أن الجزائر ليست لديها إستراتيجية تنموية حقيقية تجد نفسها في مأزق ولا خيار آخر لديها سوى اتّباع توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. كل هذه المؤسسات تدعو إلى ليبرالية مستوحاة من نظريات الاقتصادي ميلتون فريدمان. ووفقا له، فإن السوق قادر على تنظيم نفسه بنفسه وإيجاد توازن بين العرض والطلب والأسعار والأجور، وكذلك له تأثير على العمل والتضخم، شريطة أن لا تتدخل الدولة في المجال الاقتصادي (وعلى هذا المبدأ طبّقت الخوصصة) وخلق الحرية الكاملة في تسيير السوق (وعلى هذا المبدأ تركت الضوابط). عند تطبيقها في عهد ريغان وتاتشر خلفت هذه النظريات تخريبا كبيرا. بالنسبة للخوصصة، هناك عدد قليل جدا من البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية أو الناشئة، مثل بولندا وتركيا التي استطاعت بتطبيقها تحسين أداء المؤسسات. وهذا النجاح يتطلب ثلاثة شروط: -1 تسيير الخوصصة شكلا ومضمونا من قِبل قواعد سياسية واقتصادية سليمة. 2- هي أداة، وليست عقيدة، تساعد على تحقيق أهداف البلد في مرحلة معينة من إستراتيجيته، وليس تحت الإكراه لأي مؤسسة دولية كانت. 3- على البلد والشركة المراد خوصصتها أن يكون لديهما المهارات في التسيير، وزيادة عن ذلك ثقافة مؤسساتية اللتان تستندان على نظام مالي مهمته دعم الفكر الاستثماري، ولكن بمخاطر محسوبة، ولست متأكدا من أن الجزائر تتوفر على أي عنصر من هذه العناصر التي تؤدي إلى النجاح. أما ترك الضوابط أظهر آثاره الضارة أثناء الأزمة المالية في عام 2008 في الولاياتالمتحدة، التي كان من أسبابها إلغاء قانون (قلاس وستيغال) في عهد بيل كلينتون. هذا القانون كان ينظم ويضبط النشاطات البنكية منذ سنة 1933 في عهد روزفلت. لكن الاقتصاد بكونه علما من العلوم الإنسانية وليس من العلوم الدقيقة، فمن المهم أن يكون الذكاء الجزائري مسيطرا على أساسيات الاقتصاد، ويعرف كذلك اتخاذ الحيطة بالنسبة للنماذج الاقتصادية المفروضة كعقيدة. علينا أن نتذكر مخططات التقشف القاسية التي فرضها صندوق النقد الدولي مؤخرا على بعض الدول التي تتجاوز مديونيتها 90% بالمائة من المنتوج الداخلي الخام. بنيت هذه المخططات على نظرية جاء بها أساتذة جامعيون من الولاياتالمتحدة كحل حتمي ووحيد لإعادة بعث النمو لدى تلك البلدان المدانة. وكانت متبناة عالميا، وخلّف تطبيقها تحطيم عشرات الآلاف من مناصب الشغل .وفي النهاية اتضح أن هذه النظرية خاطئة تماما !! قامت الجزائر بضخ حوالي 400 مليار دولار في مشاريع إنعاش، هل كان لها أثر على المستويين الاجتماعي والاقتصادي؟ ضخّ 400 مليار من الدولارات شيء ضخم جدا بالنسبة لنتيجة لم تتعد الخمسة بالمائة فقط من النمو في 10 سنوات الأخيرة. في الحقيقة أن الحكومة أو الحكومات المتعاقبة قامت بما أسميه ”الكنيزيانيزم الاجتماعي” دون أي طريقة إلا توزيع المداخيل النفطية. تلاحظون أن الشركات التي تعاني تستفيد من إعانات ضخمة من الدولة دون إعادة هيكلتها، ولا حتى تغيير في مسيري إدارة أعمالها. حيث في الطرف الآخر للطيف، فإن البنوك مجندة لخلق ودعم شركات ومشاريع جديدة. ولكن لا يعتبر هذا إلا قليلا. حاليا يجب تحسين الشروط المتعلقة بمنح الائتمان البنكي، مع الأخذ بعين الاعتبار معايير المردودية، النمو، خلق مناصب العمل والتكوين في التسيير لمنشئي الشركات. وقّعت الجزائر على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وباشرت مسار الانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة، لكنها تبقى بعيدة عن الترابط الفعلي مع العولمة والشمولية الاقتصادية، هل الجزائر بمنأى عن الصدمات الخارجية؟ كان من المستحب إجراء مناقشة عامة بشأن اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. مثلا، ما هي الفوائد التي تعود على بلادنا، حيث إن صناعتنا (القطاع العام والخاص) تتطلب إعادة إصلاح استراتيجي لجعلها قادرة على المنافسة وقادرة على تلبية الطلب في السوق الجزائري والدولي؟! اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية تمثل، على حد سواء، خطر إلغاء تعميم الإستراتيجية الفعالة للتنويع التنافسي للاقتصاد الجزائري .وقد أظهرت الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة أن أقوى دعاة الليبرالية مثل الولاياتالمتحدة كانت من الحماة لإنقاذ صناعاتها (كالصلب، اللحوم، السيارات والبنوك..) عند تعرضها لمنتوجات أجنبية أكثر تنافسا لها. في الواقع لا وجود لقواعد تجارية عادلة إلا إذا كانت مواتية لمصالح البلدان القوية. إن الاتهامات التي وجهت من قِبل الولاياتالمتحدة إلى الصينوألمانيا في الآونة الأخيرة تفسر حجم الضغوطات التي تتعرض لها البلدان المستفيدة من التجارة العالمية. لأن هذين البلدين يتمتعان بانتظام بفائض في الميزان التجاري، فالصين متهمة بامتلاكها لعملة مقومة بأقل من قيمتها وألمانيا بخلق الانكماش في الاقتصاد العالمي. على ماذا تستند الجزائر لمقاومة هذا النوع من الضغط؟ إن التناقض مع العولمة ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون. الاتحاد الأوروبي هو الصورة المغايرة الإقليمية لمنظمة التجارة العالمية. وهو يسعى إلى دمج اتفاقيات الشراكة مع بلدان المغرب العربي لأنها أسواق جذابة. قريبا ستكون الجزائر سوقا من 40 مليون شخص بالإضافة إلى سيولة كبيرة، حيث الإنتاج المحلي لا يلبي حجم الطلب في مختلف السلع. فهي إذن سوق جذابة للغاية، وتمثل فرصة هائلة لبلدان مثل فرنسا، الصين، تركيا، وماليزيا، التي ستجد فيها سبلا جاهزة لتسويق منتجاتها. وللأسف، كم نساهم نحن في ازدهارها والحدّ من مشاكلها، خاصة مشكلة البطالة، وذلك على حساب وطننا. كيف تقيّم تسيير الجزائر لاحتياطيات الصرف التي تكتنفها الكثير من الضبابية؟ كما تقولون، هناك القليل من الشفافية في ما يخص طرق الاستثمار الذي تقوم به البلاد، ولكن إذا صبّ هذا في خانة الحذر فهذا شيء جيد، خاصة في هذا الوقت غير المضمون. إذن نستطيع أن نعتبر بأن الجزائر قامت بامتلاك سندات لدى مجموع الدول التي تمر بأزمة، وكذلك الدول التي تريد تقوية علاقتها معها. هذا شيء مفهوم، الضغوطات والتأثيرات الجيوسياسية تلعب دورا هاما في هذا الأمر. لكن أتأسف لغياب صندوق سيادي جزائري (صندوق الإرادات الجزائري). في المعاملات الدولية في أوروبا والولاياتالمتحدة وإفريقيا التي كادت تقدّم، بالنسبة للبعض، فرصة ممتازة لنقل التكنولوجيا لصالح مؤسساتنا، وللبعض الآخر فرص ثمينة لاكتساب تنازلات بشأن استغلال المواد الخام الأساسية وكذا المواد الغذائية والمعادن النادرة والنفيسة.