مرت يوم 9 مارس 2014 الذكرى 18 لرحيل إمام الصحوة الإسلامية وأديب الدعوة، الشيخ محمد الغزالي، الذي ربطته بالجزائر علاقة مشحونة بالحب والتقدير والعطاء العلمي الخصيب، فمازال الكثير من الجزائريين يذكرون إسهامه المتميز في تطوير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، التي ترأس مجلسها العلمي لمدة 6 سنوات. قبل شهرين نشرت جريدة “الوطن”، في عدد يوم الاثنين 30 جانفي، حديثا مع سيلفي أركون ذكرت فيه حادثة المشادة الكلامية التي حدثت في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر، بين والدها الدكتور محمد أركون والشيخ الغزالي، وقالت: إن والدها انقطع عن زيارة وطنه الجزائر منذ سنة 1985، حيث شارك في ملتقى الفكر الإسلامي الذي انعقد ببجاية، وفيه وصفه الشيخ محمد الغزالي ب«المرتد” وطرده أمام الملأ من قاعة الملتقى. وأضافت أن والدها شعر بالمرارة والغيظ جراء هذه الحادثة، خصوصا أن السلطات الجزائرية التي وجهت له الدعوة لحضور الملتقى لم تتدخل للانتصار له من تلك الإهانة التي لحقت به، كما أكدت، في حديثها، أن والدها حضر الملتقى لتمثيل إسلام التنوير مقابل الإسلام الظلامي الذي كان يمثله في زعمها الشيخ محمد الغزالي وأتباعه. عندما قرأت هذا الكلام شعرت بالدهشة والاستياء من حجم التضليل والتدليس الوارد في حديث سيلفي أركون. لقد كنت من بين الحاضرين في هذا الملتقى، الذي عقد تحت إشراف معالي الشيخ عبد الرحمن شيبان وزير الشؤون الدينية، وكان ذلك في سنة 1984 بفندق الأوراسي، تحت عنوان “الصحوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي”، وليس في سنة 1985 بمدينة بجاية كما جاء في حديث سيلفي أركون، وكان الشيخ الغزالي جالسا في منصة الندوة التي ترأّسها الدكتور عبد الرزاق قسوم، وشارك فيها الدكتور أركون كمحاضر، وعرض الدكتور أركون في مداخلته رأيه القائم على اعتبار القرآن الكريم خطابا لغويا يجب أن نخضعه لأحكام ومقاييس النقد البنيوي، أي أن نعامل القرآن الكريم الذي يؤمن المسلمون بأنه وحي إلهي مقدس كما نعامل أي نص بشري، نطبق عليه مناهج العلوم الاجتماعية لتحليله وفهمه. وقد استفز هذا الرأي الشيخ الغزالي الذي قاطع الدكتور أركون قائلا له: “إن أباك رحمه اللّه قد أطلق عليك خير الأسماء، وهو اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم قناعة منه بأنك مسلم، ولكن إذا كنت تعتقد صحة ما تدعو إليه فأنت مرتد”. وردّ الدكتور أركون بعصبية: “أنا مسلم ولا أقبل من أي أحد أن يشكك في إسلامي”. وعقّب الشيخ الغزالي قائلا: “إذن عليك أن تكرر أمام هؤلاء الحضور شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه”، وصدرت من بعض الحضور صيحات مؤيدة لكلام الشيخ الغزالي. بعد رفع الجلسة التقيت بالأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، وزير الشؤون الدينية والتعليم الأصلي الأسبق، الذي نظم تحت إشرافه العديد من ملتقيات الفكر الإسلامي في سبعينيات القرن العشرين، وكان يضع لها هدفا بارزا هو: أن يكون الإنسان ابن عصره، مع البقاء على أديم مصره، دون أن يصبح نسخة من غيره. وقال لي الأستاذ مولود قاسم: “البروفيسور أركون مفكر كبير مهما اختلفنا معه، وهو فوق ذلك ابن الجزائر وضيف الجزائر، وعليك أن تأتي معي لنحاول تطييب خاطره، عليك أن تطلب منه إجراء مقابلة صحفية معه لجريدة “الشعب” حتى نشعره بقيمته في الملتقى”. جاريت الأستاذ مولود قاسم في مسعاه الدبلوماسي، وتناولنا فطور الغداء على طاولة واحدة في فندق الأوراسي، فاقترحت على الدكتور أركون إجراء حوار معه، ووافق على الفكرة. هذه هي ذكرياتي عن حادثة ما سمي من بعض الصحافة “حادثة تكفير الشيخ الغزالي لمحمد أركون”، ولم يقم الشيخ الغزالي على الإطلاق بطرد أركون من القاعة، لأن ذلك ليس من أخلاق الشيخ الذي اتهمته سيلفي أركون بأنه يمثل الإسلام الظلامي، رغم أن كل سيرة ومسيرة هذا العلامة تجعله رمزا للإسلام الوسطي، والدعوة إلى اللّه تعالى على بصيرة بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، تدل على ذلك عشرات الكتب التي ألّفها، ومئات المقالات التي نشرها، وآلاف الدروس والخطب والمحاضرات التي ألقاها، ومداخلاته التربوية والتثقيفية التي أدلى بها في الإذاعات وقنوات التلفزيونات. وصدق رفيق دربه في الدعوة، الشيخ يوسف القرضاوي، الذي قال عن الشيخ الغزالي: “لقد عاش الغزالي حياته كلها حرّ الفكر والضمير والقلم واللسان؛ لم يعبد نفسه لأحد إلا لربه الذي خلقه فسواه، ولم يبع قلمه ولا ضميره لمخلوق كان. وقف في وجه الاستعمار، وكشف عن حقيقته ودوافعه. وقف في وجه الصهيونية التي اغتصبت فلسطين، الأرض المقدسة، وفي وجه التنصير والاستشراق والتبشير، الذي أراد أن يسلخ المسلمين من عقيدتهم”. وتدّعي سيلفي أركون، في حديثها، أن والدها كان منبوذا من وطنه، وأنه عاش بهذا الجرح في نفسه طوال حياته. ويتساءل المرء عن حقيقة تعلّق الدكتور أركون بوطنه، وهو قد غادره في 1958، أي عندما كانت الجزائر تمر بأحلك اللحظات، وأصعب النكبات التي سلطها عليها الاستعمار الفرنسي، الذي فضّل أركون العيش في بلده، في حين كان أقرانه من الشباب الجزائري والطلبة يفرون من فرنسا للالتحاق بالجزائر لمشاركة شعبهم في ثورته وتضحياته، من أجل افتكاك الحرية واستعادة الاستقلال، وحتى بعد استقلال الجزائر، وتمكّن الدكتور أركون من الحصول على أرفع الدرجات العلمية، فضّل البقاء في فرنسا، وخدمة لغتها والتدريس في جامعتها، بدل الالتحاق بالجزائر للمساهمة في تنمية وطنه، ونقل خبرته الجامعية والعلمية إلى بلد كان في أشد الحاجة إلى كفاءات أبنائه، ولم يحضر حتى جنازة والدته في سنة 2003، وحتى بعد وفاة الدكتور أركون، الذي طبقت شهرته الآفاق، فضّل أن يدفن خارج وطنه، وتبرر ابنته قرار دفنه في المغرب بأنه كان صادرا عن زوجته المغربية. تعتزم سيلفي أركون نشر كتاب عن والدها في شهر سبتمبر المقبل، فهل سيكون لها من النزاهة العلمية ما يدفعها لتصحيح روايتها عن طرد الشيخ الغزالي لوالدها من ملتقى الفكر الإسلامي؟