حدثنا السفير الجزائري الأسبق بواشنطن، إدريس الجزائري، في زيارة خاصة قامت بها "الخبر" لبيته في أعالي العاصمة، عن يومياته بعد نهاية الخدمة. فالسفير إدريس الجزائري الذي قضى عمره في السفر والترحال مع مهنة الدبلوماسية والبحث العلمي، لا يزال وفيا للدراسة وطلب العلم، حيث يكتب دراسات للأمم المتحدة في مجالات مختلفة في البرتوكولات والقوانين، ويقدم نصائح للخبراء الذين يشقون طريقهم في مجال العمل الدبلوماسي. يؤكد السفير إدريس الجزائري أن سر نجاح العمل الدبلوماسي هو الإخلاص والوفاء لمبادئ الدولة، كما يختزل تجربته الطويلة في شعار: “اعمل وكن على يقين أن الجزائر تستحق الأحسن”. وقد كانت الزيارة فرصة أيضا ليحدثنا السفير الجزائري عن امتداد تاريخ عائلته الكبيرة الموصولة باسم مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، الأمير عبد القادر، ويقودنا في جولة عبر تاريخ الأمير، مفندا التهم التي سعى الاستعمار من خلالها لتشويه صورته. حلم العمر.. اسم الأمير عبد القادر عاليا في هذا البيت قرر السفير إدريس الجزائري أن يستقر بعد رحلة عمر طويلة من سوريا، واشنطن وجنيف ورحلة مع الدبلوماسية وتمثيل الجزائر في المحافل الدولية، إلا أنه، كما قال، قرر أن الاستقرار أمام شرفة منزله المطل على بحر الجزائر كما تقول أغنية دحمان الحراشي “يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي”، فقد قرر الإقامة في الجزائر ليكون قريبا من ابنته، وهو يحلم معها بأن يرى يوما اسم حديقة بالكون القديس سان رافائيل المتواجد بأعالي الجزائر العاصمة وقد تحول إلى اسم حديقة الأمير عبد القادر، لما تتمتع به الحديقة من منظر خلاب، جعل منها منارة تراقب نبض حياة العاصمة اليومي. لست حفيدا مباشرا للأمير عبد القادر يرجع بنا السفير إدريس الجزائري إلى تاريخ دخوله إلى الجزائر أول مرة بعد الاستقلال سنة 1962، حيث لم يكن لعائلته الكبيرة حق العودة إلى الجزائر قبل ذلك التاريخ بسبب الاستعمار الفرنسي، كما أوضح مضيفنا أن عائلة الأمير عبد القادر الكبرى فشلت في دخول الجزائر في تلك الفترة، وقد كبر إدريس الجزائري في سوريا على حلم العودة إلى الجزائر الذي تحقق، وتحققت معه العديد من الأحلام منها العمل بوزارة الخارجية الجزائرية. حدثنا السفير إدريس الجزائري عن أصل لقب “الجزائري”، قائلا “كنا نعيش في سوريا التي كانت هي الأخرى تحت حكم الاستعمار”، ويضيف أن سوريا عرفت في المرحلة التاريخية موجة من “تغيير الألقاب والأسماء” في المجتمع، وهناك كانت عائلة الحسني التي ينحدر منها الأمير عبد القادر ملزمة باختيار اسم أشمل للعائلة، وقد جاء الاتفاق بين كبار أفراد العائلة على لقب “الجزائري”، الذي أصبح اسم عائلة الحسني الكبرى، ويطلق على كل فرد فيما بعد ينحدر من عائلة جد الأمير عبد القادر. وهنا يشدد السفير على أن لقب حفيد الأمير عبد القادر يعرف خلطا كبيرا، موضحا أنه شخصيا ليس من أحفاد الأمير المباشرين، وإنما ينحدر من عائلة الأمير عبد القادر الكبرى. كما قال إدريس الجزائري أنه لا يدّعي أبدا أنه حفيد الأمير، وأضاف: “أنا حفيد سيدي محي الدين وسيدي أبو طالب وأفتخر”. ورغم ذلك فإن السفير إدريس يشير إلى أن “كل جزائري يلتزم بمبادئ وأخلاق الأمير عبد القادر هو حفيد “مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة”، ودعا إلى الحفاظ على المبادئ التي أمر بها الأمير عبد القادر. محامي تاريخ الأمير عبد القادر حذر السفير إدريس الجزائري من الدعاية الأجنبية المغرضة التي تريد التقليل من شأن الأمير عبد القادر، وقال السفير إدريس الجزائري إن الجزائر، ورغم مرور أكثر من 50 عاما على استقلالها، لا تزال تعاني من الأعداء الذين يتربصون بواقعها وتاريخها. وفي هذا الإطار، دعا إدريس الجزائري إلى ضرورة فضح كل من يريد الإساءة للأمير وتاريخ الجزائر، سيما فيما يخص الأحداث التاريخية الهامة التي عرفتها مرحلة الأمير عبد القادر الذي خاض مقاومة تعتبر الأطول في التاريخ. وحسب السفير إدريس الجزائري فإن أعداء تاريخ الأمير عبد القادر يسعون إلى الخلط في توصيف مواقف وقرارات الأمير عبد القادر خلال المقاومة، من ذلك أن أعداء التاريخ يعتبرون قرار الأمير عبد القادر التوقف عن الحرب لحماية المدنين نوعا من الخنوع و”الاستسلام للمستعمر”. وهنا أوضح السفير إدريس الجزائري أن خطوة الأمير عبد القادر بالتوقف عن الحرب كانت “قرارا سياسيا حكيما بدوافع إنسانية”، حيث وضع الأمير شروط لفرنسا من أجل وقف إطلاق النار تضمن حماية الشعب الجزائري، حيث لا يعقل، حسب مضيفنا، أن يضع المستسلم شروطا، وتساءل السفير إدريس “هل يعقل أن تضع الجزائر شروطا أمام فرنسا إذا كانت في موقف ضعف؟”. اتهام الأمير عبد القادر ب”الماسونية” باطل ويتوغل بنا السفير إدريس الجزائري عميقا في الدفاع عن تاريخ الأمير عبد القادر، حيث يرجع على تهمة” الماسونية” ويصفها بالاتهام الباطل، ويؤكد إدريس الجزائري أن محفل هنري الرابع عشر الماسوني في باريس سعى للاحتيال على الأمير عبد القادر عندما أرسل له أسئلة لها علاقة بالماسونية، وكانت إجابة الأمير نابعة من سماحة الدين الإسلامي، حيث لم يوافق الأمير عبد القادر أبدا على الانضمام للماسونية، بل رد عليهم عندها برسالة خاطبهم فيهم بعبارة: “إن جماعتكم..”، بما يؤكد على أن الأمير لم يرد أبدا أن يكون عضوا في “الماسونية” التي كانت تعتبر انضمام الأمير “حدثا عظيما” يفتح نوافذ لانتشار الماسونية في المشرق العربي. كما يؤكد مضيفنا أن قوة شخصية الأمير عبد القادر فجرت أحقاد وغيرة بعض الشخصيات التاريخية المهمة في ذلك الوقت، على غرار محفل هنري الرابع عشر الماسوني الذي حاول استغلال السمعة الطيبة التي كان يتمتع بها الأمير عبد القادر الأمير بعد نجاحه في إخماد “نار الفتنة” بين المسيحيين سنة 1860، ويؤكد السفير إدريس الجزائري أن هناك العديد من الأدلة التاريخية والوثائق التي تنفي مزاعم أعداء الأمير بخصوص تهمة “الماسونية”. “فشلنا في تصدير الغاز إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية” لم يكن لنا أن نزور بيت السفير السابق للجزائر بواشنطن دون أن نحاول التوغل معه في ملفات العلاقات الجزائرية الدولية، سيما منها الخاصة بالولاياتالمتحدة، وأيضا من خلال تسليط الضوء على الواقع السياسي والاجتماعي للجزائر من وجهة نظر إدريس الجزائري الذي تولى منصب سفير الجزائربواشنطن خلفا لوزير الخارجية الحالي رمطان لعمامرة. وقد لمسنا الوضوح والشفافية في إجابات مضيفنا الذي لم يرفض الإجابة على أي سؤال، فهو كما قال في بداية اللقاء “ليس لي ما أخاف عليه، أنا حر، ولست أطلب شيئا..”. وفي هذا الإطار، قال السفير إدريس الجزائري إنه تولى منصب سفير الجزائربالولاياتالمتحدة في ظروف عالمية حساسة كانت تمرّ بها المنطقة العربية، تحديدا في العراق، وقد كانت الأوضاع مقلقة جدا بالنسبة للجزائر، ما جعل العلاقات الثنائية التي تجمع الجزائروالولاياتالمتحدة تأخذ منحيين اثنين: الأول هو اتفاقات البترول والغاز، حيث كانت الجزائر تعمل في ذلك الوقت على تصدير الغاز للولايات المتحدةالأمريكية، ولكن للأسف فإن جميع المحاولات لم تنجح، وقد أصبح الأمر مستحيلا اليوم بعد أن تمكنت الولاياتالمتحدة من أن تصبح دولة مصدّرة للغاز بفضل سياساتها الإستراتجية، وأصبحت تنافس حتى الجزائر على الأسواق العالمية في تصدير الغاز، أما المنحى الثاني الذي تحكم في العلاقات الجزائريةالأمريكية، حسب السفير السابق، فهي ملفات الشرق الأوسط التي ظلت تشكل حجر الزاوية والاختلاف بين واشنطنوالجزائر. عندما سألنا السفير إدريس الجزائري “لماذا فشلنا في تصدير الغاز إلى الولاياتالمتحدة؟”، قال إن واشنطن أرجعت الأمر لانشغالاتها البيئية والأمنية، حيث كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تتخوف من أن تتحوّل حاويات الغاز المميع الجزائري إلى قنابل موقوتة، وحسبه، فإن هذا الرد الذي كانت تكتبه الولاياتالمتحدةالأمريكية للمسؤولين الجزائريين لم يكن مقنعا على الأقل من وجهة نظره الخاصة. “الربيع العربي”.. طريق جديدة لاستعمار العالم العربي بالإضافة إلى الملف الاقتصادي فقد كان اللقاء فرصة لفتح ملف الإرهاب، وكيف كانت الولاياتالأمريكية تنظر إلى الجزائر في هذا الشأن. وأوضح السفير إدريس الجزائري في هذا الصدد أن الولاياتالمتحدة لم تكن تفهم الأزمة الأمنية في الجزائر في بداية الأمر. وقال “الولاياتالمتحدة لم تفهم جيدا الأوضاع وطبيعة الإرهاب، وكان لديها تردد تجاه القضايا الداخلية في الجزائر”. ولكن أحداث سبتمبر، حسب مضيفنا، دفعت الولاياتالمتحدة إلى تغيير قناعتها ورؤيتها للظاهرة العالمية هذه، بعد أن كانت تعتقد أن الإرهاب في الجزائر ناتج عن سوء الحكامة في الجزائر، ولكنهم اكتشفوا في نهاية المطاف أن قضية الإرهاب تحد عالمي، خصوصا بعد أن أصبح الإرهابيون يعرفون كيفية استخدام مفهوم الحرية لخدمة أغراضهم الشخصية، من خلال لعب ورقة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وغيرها من المفاهيم المحسوبة في القرن الحالي على الغرب.. واعتبر إدريس الجزائري أن توجه الجزائر والدول العربية بعد الاستقلال إلى المركزية كان أمرا طبيعيا لضمان توحيد ووحدة الوطن وتفادي الانزلاقات، التي كانت تهدد تلاحم المجتمع الجزائري في ذلك الزمان، لكن الاستمرار في ذلك المنهج فجّر العديد من الأزمات مؤخرا، وهذا ما حصل في العديد من الدول العربية التي عرفت ما يطلق عليه “الربيع العربي”، حيث كان من الممكن للدول العربية أن تتجنب ما أسماه السفير ب”الاستعمار الجديد”، لو قبلت بأن تتجه نحو التخلي عن مركزية وأحادية نظام الحكم. وبالنسبة للجزائر فإن أحداث أكتوبر 1988 هي التي جعلت منها تنجو من تلك الموجة، ورغم ذلك فالجزائر لا تزال في خطر، وبحاجة كبيرة إلى تطبيق نصائح الرئيس الراحل هواري بومدين الذي قال: “إذا أردت أن لا تتدخل الدول الكبرى في شؤونك لابد أن تحل مشاكلك الداخلية”. وبشكل عام لم يخف السفير السابق حزنه على واقع الحياة في الجزائر، وقال “لا يغير اللّه ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وأضاف أنه يمكن القول بشكل مباشر وصريح “إن أحوال الجزائر لا تزال تعبانة منذ الاستقلال”. حزين على الأوضاع في غرداية غادرنا بيت السفير الذي خصنا بحفاوة الاستقبال.. ومنحها فرصة هامة للتقرب من خزانة أفكاره وأحلامه التي لا تزال تتساءل بحسرة ألم عن سبب فشل الجزائر لإيجاد حل لأزمة غرداية، التي كانت مفخرة للجزائر، فالاقتصاد الوطني عندما عرف الهزات، عرف سكان غرداية كيفية خلق بدائل لإنعاشه خارج ريع البترول والغاز. كما قال لنا مضيفنا في نهاية اللقاء إن بعض الدول المجاورة تحاول استغلال المشاكل الداخلية للجزائر لإثارة الفتن، وهو ما يجب أن تتفطن إليه الجزائر التي تملك، حسب إدريس الجزائري، كل الوسائل لحل الأزمات الداخلية قبل أن تتوسع في حال استمرار تقصير السلطة ولامبالاة المجتمع وغياب الثقة المتبادلة بينهما.