عوض أن تفضي انتفاضات الشعوب إلى تحوّل باتجاه الحرية والديمقراطية، أفضت إلى مواجهة الفتن المتنوعة، فتن على أساس المذهب أو الدين، وفتن على أساس العرق، وفتن على أساس المصالح. وفعلا لم يكن هناك من وسيلة أمام الاستبداد وحلفائه في الداخل والخارج، للالتفاف على تحرك الشعوب العربية وانتفاضاتها على الاستبداد السياسي والقهر المادي والمعنوي، سوى “فرّق تسد” هذه القاعدة الذهبية لأنظمة التسلّط وقبلها وبعدها للاستعمار. لقد بدأ هذا المسار، كما يبدو اليوم واضحا، بكسر الإجماع السياسي الاجتماعي ولو غير الديمقراطي، الذي أقامته أنظمة ما بعد الاستعمار، الوطنية الثورية منها أو اليسارية، ودخول منطق الليبرالية، ولكن قبوله في الاقتصاد والتجارة ورفضه في العمل السياسي والاجتماعي والنقابي. العرب ضد الفرس والكرد ضد العرب، والعرب ضد الأمازيغ، والميزابيون والتوارڤ أو العكس، والسنّة ضد الشيعة أو العكس، والمسيحيون ضد المسلمين، وهكذا وكأن أحد يريد إقناع كل هذه الشعوب أنه لا مفر، إما الاستبداد والتسلط أو التطرف والفتن والتناحر الدموي، لا شيء آخر ممكن، ويبدو اليوم جليا، أن غير المسموح هو الحرية والديمقراطية والوصول إلى المواطنة التي تعوّض القبلية والعرقية والطائفية. “داعش”، حسب جل التقديرات، عامل من عوامل “فرّق تسد”، لأن الصورة التي قدّمت بها هي أنها تنظيم ممثل ومساند، بل و«منقذ” للسنّة في العراق وفي المنطقة. وقدمت “داعش” أيضا على أنها مؤشر على “انتهاء مرحلة سايكس بيكو”، أي نهاية الجغرافية السياسية الحالية للمنطقة العربية، وأن التوجه، في إطار “فرّق تسد”، إلى مزيد من التقسيم والتفتيت. ذلك ما نقرأه في الكثير من التقارير الإعلامية التي تنقل عما يسمى تقارير سرية أو دراسات جيوستراتيجية أو “مقترحات تقسيم” صادرة من هذه الجهة العسكرية أو المخابراتية أو من “معاهد دراسات” تابعة لها أو لغيرها، دول أو جماعات ومصالح. لقد نقلت بعض وسائل الإعلام العربية عن هيلاري كلينتون قولها “.. إن الإدارة الأمريكية هي التي شكلت تنظيم “داعش” لتقسيم الشرق الأوسط، وإنها دخلت الحرب ضد العراق وليبيا لهذا الهدف وإنها كانت تخطط بالتنسيق مع القوى المعنية لإقامة “الدولة الإسلامية” في مصر والإعلان عنها يوم 5/7/2013 لولا “الثورة!” التي حدثت وأطاحت بنظام الإخوان المسلمين في مصر، مما أدى إلى تغير كل شيء خلال 72 ساعة..”. فهل كانت كلينتون تعني بالضبط ما فهم مما اقتبس عنها في الإعلام العربي؟ ونقل عن موقع صيني اسمه “فورت ميديا” قوله إن “داعش”: “.. تلقت الضوء الأخضر لتدمير البلدين العراق وسوريا وتوسيع رقعة الحرب فيهما للحد من توسع الجمهورية الإسلامية الإيرانية..”. أما سمير أمين، ذو الرؤية الإيديولوجية فيرى في كتابه ”إمبراطورية الفوضى” في أوائل التسعينيات بعد حرب الخليج الأولى: “.. إننا ندخل مرحلة الحروب، حيث إن منطق النظام (النيوليبرالي) يفرض ضرورة السيطرة على العالم باستخدام القوة، وهذا صحيح، حيث أن تخلي السياسات النيوليبرالية عن نظام التوافق الوطني بشأن التوزيع الثابت للدخل كان يعني ضرورة اللجوء للقهر المتزايد أو الحروب..”. وعندما سئل سمير أمين منذ فترة قصيرة عن أي مرحلة نعيشها الآن.. وإلى أين يتجه العالم قال: “.. نحن نعيش مرحلة انفجار وتفكك المرحلة الثانية، وهي الليبرالية المؤمولة والمعولمة، وهذا الانفجار يتخذ أشكالا مختلفة..”. ربما ما تعيشه المنطقة العربية يندرج في سياق ما أشار إليه سمير أمين. وهو ما يجعل كل “الفاعلين” في المنطقة، أنظمة وجماعات مسلحة، في جلها، مجرد أدوات تنفذ، وبطريقة إرادية واعية أو غير واعية، استراتيجيات عالمية، تتحكم فيها الأطراف الصانعة للقرار على المستوى العالمي. في كل الأحوال ما هو واضح أن الكثير من البلدان العربية فقدت كل قدرة على بناء توافقات سياسية إرادية، وهي تعيش الفتن والاستبداد والظلامية، سواء تندثر منطق الفتنة، بالدين أو بغيره من المبررات الطائفية أو العرقية، فالنتيجة واحدة، معالم صورة مفبركة موضوعة وغير موضوعية: عليكم البقاء على تخلفكم واستبدادكم وظلاميتكم أو عليكم المرور بمرحلة من الفتن الدموية. الفتن تعطل كل “توجهات الثورة” وكل “تطلعات الحرية” وتعمل على وضع كل ما من شأنه أن يمنع بدء أي عملية تفكيك أنظمة الاستبداد والتسلط الداخلي والخارجي. أليس ذلك سبب آخر مقنع للتوجه في الجزائر وبسرعة وإصرار إلى بناء توافق سياسي وطني جديد؟