تنفرد وهران بكونها المدينة الوحيدة التي يؤدي فيها المصلون صلوات الأعياد وتقام فيها المناسبات الدينية في مسجد غير رسمي، منذ قدوم الرئيس بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999. لكن سيسجل التاريخ أن هذا الرئيس، مهما اختلف الناس حوله، هو الذي مكّنت قراراته وهران من اكتساب مسجد كبير، من المفروض أن يخفف من هيمنة المعالم الإسبانية والفرنسية على المدينة، حيث سيصلي الوهرانيون الجمعة القادم في جامع عبد الحميد بن باديس الذي كادوا ييأسون منه. يؤدي المصلون الوهرانيون الجمعة القادم صلاتهم في جامع عبد الحميد بن باديس، الذي انتظروه لمدة تفوق 44 سنة كاملة. هذا الجامع، الذي تحوّل إلى “هيكل أثري” نظرا للمدة الزمنية الطويلة التي قضاها وهو مجرد هيكل ضخم من الأعمدة الإسمنتية التي رفضت أن تأخذ شكلها الذي أراده أصحاب الفكرة الأوائل من أبناء المدينة سنة 1971، عندما شرعوا في السعي لإنجاز مسجد يعطي لوهران “معلما” يضاهي الكاتيدرائية، في شارع حمو بوتليليس، التي تحولت بعد الاستقلال إلى مكتبة، أو الكنيس اليهودي في شارع معطى محمد الحبيب، الذي صار مسجد عبد اللّه بن سلام. واختار المبادرون بالفكرة، حينها، وعلى رأسهم الصغير بن علي رئيس بلدية وهران آنذاك، تأسيس جمعية 1971 تعنى ببناء مسجد كبير يليق بوهران، وهذا بعد أن قرر الرئيس الراحل هواري بومدين إنجاز جامعة الأمير عبد القادر بمدينة قسنطينة، والتي وضع حجر أساسها سنة 1970. ويمكن اعتبار فكرة إنجاز مسجد بن باديس في وهران “مبادرة مدنية” تبناها أبناء مدينة وهران قبل السلطات العمومية. الوهرانيون أرادوه في ساحة “خنق النطاح” ووقع الاختيار على موقع في وسط المدينة نظرا لرمزيته، وهي ساحة خنق النطاح “كارقينطة”، التي خاض فيها الأمير عبد القادر معركته الشهرية ضد الفرنسيين. وهي المعركة التي تحمل اسم تلك الساحة، ثم قام أصحاب الفكرة بتأسيس جمعية لم تر النور إلى غاية سنة 1975، عندما وقّع والي وهران قرار اعتماد الجمعية الدينية لمسجد عبد الحميد بن باديس في 28 فيفري 1975 تحت رقم 74. وبدأت الجمعية تنشط وجمعت حينها ما يقارب 100 مليون سنتيم من المتبرعين، لكن اعترضها عائق وهو أن ساحة “خنق النطاح” (كارقينطة) كانت تضم سوقا، صعب عليهم تعويض التجار الذين كانوا يمارسون فيها نشاطهم لإخلاء محلاتهم وهدم السوق لإقامة المسجد. وبقي المشروع يراوح مكانه، إلى أن تقدم شخصان من أثرياء المدينة يملكان قطعتي أرض في موقع مطل على البحر، عند نهاية شارع جبهة البحر، وتبرعا بالأرضية لفائدة المسجد. وبدأت “الضغوط” لكي لا ينجز المسجد في ذلك الموقع، لأنه كان سيخفي مشهد الكنيسة والحصن الإسباني اللذين يقعان فوق جبل هيدور “مرجاجو”، حيث يتراءى من خليج وهران للبواخر القادمة إلى الميناء أو التي تغادره، وهو ما سيطغى على “المشهد النصراني” الذي وضعه الاستعمار الفرنسي لكثير من المدن الساحلية الجزائرية، مثل عنابة وسكيكدة والجزائر العاصمة وغيرها، التي تستقبل كنائس كبيرة المقتربين من سواحلها. المعلم الإسلامي المقاوم ويمكن القول إن مشروع جامع بن باديس قاوم سنوات طويلة، قبل أن ترتفع مئذنته في سماء وهران، رغم أنه اختير له موقع غير الذي من المفروض أن يكون فيه، على رأي خبراء التعمير. ففي المدن الجزائرية وقراها كان المسجد دائما مركز العمران، على غرار القرى الواقعة في الجبال، مثل منطقة القبائل التي هرب إليها الجزائريون من الغزو المتكرر، والتي آووا إليها للهروب من ضغط الباشاغوات والقيّاد في العهد العثماني. ولقد رسم الاستعمار الفرنسي مدنا خصص لرموزه فيها من الكنيسة والبوليس أو الدرك والبلدية المواقع المركزية في المدن التي بناها. ولقد جعل الفرنسيون مدينة وهران مدينة أوروبية صرفة، وهو ما أراد مجاهدوها وعلماؤها أن يمحوه بعد الاستقلال، بالتفكير في إنجاز مجمّع ديني ثقافي يرمز للهوية التي أراد الفرنسيون محوها. فقد تم تحويل الكنائس والمعابد اليهودية إلى مساجد، لكن ظل ينقص المدينة مسجد يبنيه الجزائريون، وجاءت مبادرة تأسيس جمعية مسجد الشيخ عبد الحميد بن باديس في بداية سبعينيات القرن الماضي، وبعد عدم تمكن الجمعية من إنجاز الجامع في قلب مدينة وهران، في ساحة “خنق النطاح” التاريخية، شرعت في البحث عن أرضية أخرى. ووقع الاختيار على الموقع الذي توجد فيها حاليا عمارات “موبلار” الزرقاء، وهي أرضية تملكها عائلتان ثريتان مجاهدتان، تبرعتا بإرادتهما بالأرض لبناء المسجد. طوارئ و«حسابات” نقلته إلى حي جمال لكن طارئا جديدا اعترض المشروع في عهد الوالي الراحل رشيد مرازي، عندما تقرر شق طريق من شارع جبهة البحر نحو حي الصديقية ثم كاناستيل، وهي الطريق التي خطط لها لتعبر الأرضية التي تبرعت بها العائلتان الوهرانيتان. وتقرر حينها نقل مشروع المسجد إلى أرضية ملك للدولة في الموقع الحالي الذي أنجز فوقه الجامع، عند ملتقى الطرق الدائري لحي جمال الدين، لكنها لم تكن تتسع للمشروع، ولم تبخل عائلات وهرانية أخرى فتبرّعت بأراضيها المجاورة لأرضية المشروع. وتأخر الانطلاق مدة فاقت عشر سنوات بعد تاريخ تغيير الموقع، لأن الجزائر دخلت حينها في مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، مع الأزمة الاقتصادية ثم الانفتاح السياسي وبروز الأزمة الأمنية. وجرت محاولة الاستحواذ على القطعة الأرضية التي تبرعت بها العائلتان في وسط المدينة، بالتواطؤ مع الإدارة المحلية التي اقترحت عليهما التنازل عنها لصالح أملاك الدولة، على أن تعوضهما بأكثر مما تبرعتا به. و«رفضت العائلتان المتاجرة بالخير الذي أرادتا فعله”، وهو ما كلف إحدى العائلتين غاليا فيما بعد. وأخيرا تدخلت السلطات العمومية في سنة 1995 ليتم تسجيل مشروع الجامع في برنامج الدولة الجزائرية، وتم رصد غلاف مالي قدّر ب10 ملايير سنتيم من الخزينة العمومية للانطلاق في الإنجاز، مع فتح باب التبرعات في المساجد، وتم تجديد اللجنة الدينية التي أوكلت رئاستها لوزير الشؤون الدينية الأسبق بوعلام باقي، وكان معه في اللجنة وجهاء المدينة، منهم الإمام المجاهد الشيخ الزبير والشيخ لطرش وعبد الحميد سراج وغيرهم. وانطلق المشروع، أخيرا، في 5 جويلية 2000 بوضع حجر أساس الجامع الكبير في موقعه الحالي، وتكفلت شركة “باتيور” العمومية بإنجازه. هيكل إسمنتي رفض الاكتمال وبإسمنت.. مغشوش! انطلقت أشغال إنجاز جامع عبد الحميد بن باديس، التي كان من المفروض أن تنتهي في أجل خمس سنوات، كما أعلن عنه حينها. وبدأت شركة “باتيور” العمل بوسائل ضخمة، حيث كان عليها أن تنجز أساسات البناية وهيكلها العام، ما تطلب صبّ أكثر من 1000 متر مكعب من الإسمنت المسلح. وانتهى عملها وانتهت معه الأموال المرصودة للمشروع، ليتم اكتشاف أمر “خطير” يتمثل في كون أجزاء كبيرة من الأساسات بنتها شركة “باتيور” بإسمنت مغشوش، حيث قام تاجر لبناني قد استقر في وهران في تلك المرحلة وفتح شركة للمتاجرة في مواد البناء ببيع إسمنت مغشوش لشركة “باتيور” شيّدت به أساسات المسجد. وقامت “القيامة” وفتحت الشرطة تحقيقات. لا أحد يعرف إلى أين انتهت! لكن المشروع توقف، وكان عبد العزيز بوتفليقة قد جاء إلى الحكم، وفي زياراته إلى وهران المتكررة كان يفضّل الزاوية البلقايدية في سيدي معروف على غيرها من المساجد، وقلّده كل الوزراء والوجهاء الذين حوّلوا تلك الزاوية إلى “قطب ديني”، ونسي الناس مشروع جامع بن باديس، عندما قرر شكيب خليل بناء مقر جديد لشركة سوناطراك بجواره، ثم سجل مشروع مركز الاتفاقيات وفندق “الميريديان”، وغيرها من المشاريع التي همّشت “المشروع التاريخي للمدينة”. بوتفليقة ينقذ المشروع ب500 مليار وبقي الوضع على ما كان عليه، إلى أن تم تعيين عبد القادر زوخ واليا لوهران، فاتخذ مبادرة إعادة بعث المشروع، وتقرر تجديد اللجنة الدينية للمسجد، وتم رصد مبالغ مالية إضافية من الخزينة العمومية له. وهنا تدخل رئيس الجمهورية سنة 2007، وقرر منح مبلغ 500 مليار سنتيم لإتمام إنجاز الجامع وتجهيزه. لكن إقامة الوالي زوخ لم تدم طويلا في وهران، وطُرح حينها خياران لمواصلة المشروع، إما هدمه وإعادة بنائه من جديد، أو تدعيم أسسه وأعمدته. فتقرر الاستنجاد بشركة صينية أوكلت لها مهام دعم أسسه وأعمدته وتقويتها، وهي العملية التي تمت بسرعة كعادة الصينيين، وكعادتهم أيضا استهلكوا كل الاعتمادات المالية التي رصدت للعملية، وبقي المشروع ينتظر إلى غاية تعيين الوالي الحالي عبد الغاني زعلان الذي جعله من أولويات الإدارة المحلية، حيث تم التعاقد مع شركة تركية قدمت مخططا تقنيا جديدا لإخفاء عيوب الهيكل، وتصحيح العديد من منشآته، منها الطوابق تحت الأرضية التي تضم قاعات التجهيزات والمرآب، وكذا الملحقات الأخرى. وتقرر تلبيس البناية بتقنية جديدة عن طريق وضع مسطحات مزخرفة على كامل البناية. وبدأت الأشغال بالمنارة التي يبلغ طولها 104 متر، وهي أعلى نقطة في بنايات مدينة وهران. وتتكون المنارة من 21 طابقا من المفروض أن تضم الإدارة والمكاتب المخصصة للباحثين، حيث إن مساحة الطابق الواحد تبلغ أكثر من 150 متر. وكأن عين حسود تلاحق الجامع! ومع بداية ظهور المعالم الأولى لما سيكون عليه الجامع، بدأت أصوات في وهران تتحدث أنه غير مستقبل القبلة، وأخرى تقول إن بعض زخارفه مرسوم عليها “نجمة داوود”، وآخرون نشروا إشاعات أن المنطقة التي بني فيها زلزالية وغيرها من الأقاويل. ويعرف سكان وهران أن كل هذا يدخل في إطار “الحرب” التي شنها “أواخر الأقدام السود” كما يسمون في المدينة. وهم الجزائريون الذين يرفضون “جزأرة” المعمار الذي تركته فرنسا، ويريدون أن تبقى “الجزائر فرنسية” في تعميرها وعمارتها. وقامت الشركة التركية بتهيئة قاعة الصلاة التي يبلغ علوها 46 مترا، تضم قاعة للنساء في الطابق الأول. وتستطيع فضاءات الصلاة أن تضم 20 ألف مصل. ويمكن أن يتضاعف العدد في الساحة والسطح. وينحدر من قبة بيت الصلاة ثريا ضخمة دائرية الشكل، في غاية الجمال. وبدأ شكل الجامع يظهر منذ سنة تقريبا، مع قدوم مهندسين وبنائين أتراك، حيث أدخلوا عليه تقنيات عصرية في الإضاءة وشبكة المياه والحدائق وتنظيم وتهوية حظيرة السيارات التي تقع تحت الأرض. وتقرر فتحه للصلاة يوم الجمعة 17 أفريل بمناسبة افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، ولكنه تاريخ “مهم” لأنه في 17 أفريل 2014 بقي بوتفليقة في الرئاسة للعهدة الرابعة، وهو ما لم يقله وزير الشؤون الدينية والأوقاف، محمد عيسى، في الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى الجامع الأسبوع الماضي، والذي سيكون من دون شك حاضرا يوم الجمعة القادم في وهران ليصلي مع سكانها أول صلاة جمعة في جامع عبد الحميد بن باديس.