قرأت مقالات وأعمدة في الصحف الوطنية تتحدث بكل حرية عن المعلم، هذا الطرف المبجَّل في المجتمع منذ الأزل، عند العرب والعجم، وما قرأته لم يعجبني تماما رغم بعض الملاطفات والكلام اللين والمعسول، لأن المعلم طرف اجتماعي يفرض المنطقُ احترامَه وتبجيله. من منَّا، نحن الأساتذة، يحبّ الإضراب عن العمل والركون إلى الفوضى؟ من منا يحب أن يرسب أبناؤه وتلاميذه؟ من منَّا لا يريد أن يرى طلبته إطارات فذة ناجحة في المستقبل؟ من منا يميل إلى تشويه العلم والمعلم؟ مَن مِن المربين يسعى إلى إفساد المنظومة التربوية؟.. لا أحد يا قوم، لا أحد يا كتَّاب.. يا إعلاميين. توصلت إلى قناعة هي أن التعليم ومسؤوليته، والمعلم ومشاكله لن يستوعبها ويستشعرها إلا من مارس المهنة، ونستثني من هؤلاء ذوي الألباب الذين فتح اللّه عليهم خزائن الفقه والنباهة. معظم الناس كُتَّابا وقراء، أولياء وغيرهم يقولون: إن الأستاذ يفكر في مصلحته فقط، ولا يفكر في المصلحة العامة، يظل مطالبا بالحقوق دون تأدية الواجبات، وهناك من قال، لقد وقعوا في فخ النظام فشوهوا صورتهم وصاروا يجُرُّون التلاميذ إلى الهاوية، ومنهم من قال: لا تزيدوا الطين بلَّة، ومنهم.. ومنهم..، وأقول لهؤلاء وغيرهم: لو أنكم جربتم مهنة التعليم لعرفتم أنها أصعب مهنة في الوجود؛ معنويا وجسديا وفكريا واجتماعيا ودينيا. إن ”المعلمين- كما أشار بليغ زماننا محمد الهادي الحسني- والأساتذة إذا أحسوا أنهم محل اهتمام، ولم تغمط حقوقهم أعطوا مجهودا أكبر.. وأقبلوا على العمل بصدور منشرحة.. وبمعنويات مرتفعة، أما إذا أدركوا أن حقوقهم المادية مهضومة، وأن قيمتهم المعنوية مكلومة فإنهم- ولو أجبروا على العمل- يعملون وحالهم النفسية سيئة”. إن هذه الإضرابات هي الحل الوحيد لإسماع صوت المظلوم، فباللّه عليكم هل نقتدي بالياباني الذي يضاعف الجهد حتى يصيب السوق بالكساد؟ هل نصمت؟ إن هؤلاء المسؤولين لا يفقهون هذه الإشارات ومن فعلها فهو عندهم أضحوكة ومجنون، فكلٌّ يجب أن يعامل باللغة التي تناسبه، والدليل أن هناك قطاعات بقيت كادحة لأنها لا تملك نقابة تدافع عنها، ولم يتكاتف عمالها، كالعمال المهنيين في التربية، ومن لا يعرفهم فليَزُرْهم فإنهم بجواركم في كل حي. يا قوم ألا تفقهون فكرة الوحدة في بناء الأمم وقيام النهضة، فبدلا من دعوة الأساتذة وغيرهم إلى التعقل طالبوا المسؤولين بأن يكون عند وعودهم وألا يكذبوا على العمال والناس، لماذا لا نطالب كل وزارة أن تسعى إلى توفير العيش الكريم للموظف مهما كان: أستاذا أو طبيبا أو عاملا للنظافة أو حارسا أو.. إن الأستاذ في الدول التي تحترم نفسها في المرتبة الأولى، لأن كل الناس يتربون على يديه، وبعدها لا بأس بالصرامة والحزم في معاقبة من لا يحترم هذه الرسالة والمهنة. لا ننكر أن هناك ممن ينتسب إلى هذا القطاع وهو من المفسدين، ولكن لماذا في كل مرة يتوقف كثير من كتابنا عند هذه الحالات، فيشوهون القطاع بعناوين عريضة كالتحرش وتضخيم النقاط و..، ولا يحاولون تقديم أفكار جديدة ومعالجة مشاكلهم و.. فهذه الحالات تعكس وضعا مترديا في الأمة شمل كل القطاعات من قطاع الصحة إلى التعليم إلى الإدارة وما أدراك ما الإدارة و.. ومن يكتب هذه الأفكار فقط فهو يكنُّ حقدا للعلم قبل المعلم. وأضيف فكرة هي أن موضوع التربية لا يتطرق إليه كثير من كتابنا إلا عندما يسمعون بإضراب، وهذه غفلة كبيرة تعكس عدم الاهتمام بالمعلم أصلا حتى من الطبقة المثقفة. كثير من الخلق في بلدي يقولون لقد أخذتم المال فماذا تريدون؟ وأنا أجزم أن هؤلاء الناس لا يقرأون تماما، فلو تصفحوا مواقع نقابات التربية لفهموا المشكلة وتوقفوا عن الكلام. إن الأستاذ يفكر في التلميذ أكثر من جمعية أولياء التلاميذ، وأكثر من وزير التربية، بل أكثر من كثير من الأولياء، وأنا أقول هذا الكلام من منطلق الواقع والتجربة، وهذه المطالب مشروعة عقلا وواقعا، وتحقيقها ليس مصلحة خاصة، بل مصلحة عامة فهي للأجيال القادمة، وتحقيقها يجعل المربي يعمل معززا كريما لا يشعر بنقص في مكانته، ولا يريد أن يطلب يد المساعدة من أحد إلا فيما يعتبر من الأمور المعقولة، فليفقه الجميع أن لا تقدم ولا ازدهار إلا بصلاح المنظومة التربوية، وإذا لم يتيقن البعض من ذلك، فليطالع كيف هو حال المنظومات التربوية في الدول التي يحترم مسؤوليها أنفسهم. [email protected]