شارك المجاهد جودي عتومي في الثورة من 1956 إلى غاية الاستقلال، وكان من ضمن الطلبة الذين استجابوا لنداء جبهة التحرير الوطني في ماي 1956. يتحدث في هذا الحوار الذي خص به ”الخبر”، عن جوانب من تاريخ حرب التحرير في الولاية الثالثة، بالتوقف مطولا عند شخصية العقيد عميروش الذي عمل إلى جانبه بمقر مركز الولاية الثالثة. ويفند عتومي كثيرا من المغالطات التي روّج لها المؤرخون الفرنسيون، منها مثلا ما أورده ايف كوريير في كتابه حول ”حرب الجزائر”، بخصوص وجود خلافات بين عبان رمضان والعقيد عميروش. كما تحدث عتومي عن مسار الثورة بعد استشهاد عميروش، وبروز خلافات عابرة بين الرائدين محند أولحاج وعبد الرحمان ميرة حول القيادة، وصولا إلى حركة الضباط الأحرار التي برزت في الولاية الثالثة. ما هي الأسباب التي دفعتك للتحول إلى الكتابة التاريخية؟ ألفت عدة كتب منها ”العقيد عميروش بين الأسطورة والحقيقة” (2004)، ”العقيد عميروش” (2005)، ”وقائع سنوات الحرب في الولاية الثالثة” (في جزأين)، ”نصوص الحرب”، ”أن يكون عمرك عشرون عاما في الجبال” (2007)، ”الجنود الفرنسيون الذين قالوا لا للحرب” (2012)، وقد انتقلت للكتابة التاريخية حتى لا نترك المجال للمؤرخين الفرنسيين لكي يكتبوا ما يحلو لهم، ووفق التصور الذي يريدونه. وقد تخصصت في تاريخ الولاية الثالثة، لأني شاركت في الثورة من 1956 إلى غاية 1962 هناك. بالحديث عن الكتابات التاريخية الفرنسية، ورد في كتاب الفرنسي ايف كوريير أن عميروش أراد تصفية عبان خلال مؤتمر الصومام، هل حدث هذا فعلا؟ أبدا، هذه أكذوبة. فأنا أعرف العقيد عميروش جيدا، وبإمكاني أن أؤكد أن هذا السلوك غريب عنه تماما. لأنه لم يكن يهتم بالدسائس السياسية ولا بصراعات العُصب ولا بالمؤامرات. لم يكن في صالح عميروش الدخول في أي صراع مع عبان رمضان، ولم يكن من القادة الذين يتطلعون للزعامة. كان همه الوحيد يتمثل في تقوية صفوف الثورة. ولم يكن صاحب طموحات، غير طموح استقلال البلاد والتخلص من الهيمنة الاستعمارية. بعد مؤتمر الصومام، رُقي عميروش لرتبة عقيد، وذلك لم يكن ليتحقق من غير مباركة عبان رمضان وكريم بلقاسم والعربي بن مهيدي. كما أن لجنة التنسيق والتنفيذ التي كان عبان عضوا فيها، هي التي كلفت العقيد عميروش بالانتقال إلى الأوراس. نعم، كان العقيد عميروش يحظى بمساندة جميع الولايات باستثناء الولايتين الثانية والخامسة. وكان عازما على تحقيق مهمته وفق قرارات اجتماع ”أولاد عسكر”. وفي كل الحالات تمكنت أجهزة الاتصالات الفرنسية من تحديد مكان تواجد العقيد عميروش بجبل ثامر ولماذا انتقل العقيد عميروش إلى تونس في هذه الفترة بالذات؟ بعد مؤتمر الصومام، توجه عميروش إلى تونس، وهو لايزال برتبة رائد ومساعد أول للعقيد محمدي السعيد (سي ناصر)، وقد كلفته لجنة التنسيق والتنفيذ، مثلما كلفت العقيدين أوعمران وإبراهيم مزهودي، بالتوجه إلى الأوراس، كما قلت، لإيجاد حلول للمشاكل والنزاعات الداخلية التي انتشرت في الولاية الأولى. وكانت لجنة التنسيق والتنفيذ مهتمة جدا بظروف مقتل مصطفى بن بولعيد، وغياب ممثليه عن مؤتمر الصومام. ولأسباب مجهولة، توجه عميروش بمفرده إلى الأوراس، ولم يذهب أوعمران وإبراهيم مزهودي إلى هناك. وبينما كان في الأوراس، وصلته أخبار مفادها أن العقيد محمدي السعيد استشهد في معركة مع العدو، فقرر العودة إلى الولاية الثالثة. وإثر عودته أعدّ تقريرا مفصلا عن ظروف مهمته في الأوراس للجنة التنسيق والتنفيذ التي أرسلته في مهمة أخرى بالقاعدة الشرقية لإيجاد حل لمسألة إيصال الأسلحة من الخارج إلى الداخل. لكن السؤال الذي ظل يشغلنا طيلة هذه السنوات، هو أن قيادة الثورة في تونس اتخذت قرار تنحية العقيد عميروش من على رأس الولاية الأولى، وتعيين كل من العقيد سعيد يزوران (المدعو فريروش)، والرائد عبد الرحمان ميرة، للتوجه إلى الداخل يوم 31 أكتوبر 1958، خلال اللحظة التي كان عميروش يستعد فيها للذهاب إلى تونس، عقب اجتماع ”أولاد عسكر” بين 8 و12 ديسمبر 1958، والذي حضره قادة الولايات، وهو الاجتماع الذي خرج بمذكرة من ثمان وثلاثين نقطة، منها مشكلة التسليح. لكن العقيد يزوران سقط من على صهوة جواده، فعاد أدراجه رفقة الرائد ميرة. ولم يتمكن الرائد ميرة من العودة من تونس رفقة مجموعة من الحرس المقربين إلا بداية مارس 1959، ووصل إلى الولاية الثالثة عند نهاية شهر مارس. فهل يتعلق الأمر بمعاقبة عميروش أم بالتحضير لترقيته أم تعينيه في منصب سفير مثلما راجت الأقاويل آنذاك؟ ولماذا ألقيت على الولاية الثالثة بالذات مهمة فتح جبهة الجنوب؟ مع مطلع العام 1955 امتلأت القبائل بالجنود التابعين للحركة الوطنية الجزائرية التي أسسها مصالي الحاج في ديسمبر 1954، لكن جنود جيش التحرير تمكنوا من طردهم نحو الجنوب، بعد رفض السكان أي تعامل معهم، مفضلين بالتالي جيش التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد لهم، فقررت قيادة الولاية الثالثة والرابعة تعيين العقيد علي ملاح لمطاردتهم، وبالتالي فتح جبهة الجنوب. وتم بالفعل كسر شوكة جيش الحركة المصالية، وانتهى الأمر بقائدهم ”الجنرال” بلونيس بالانضمام إلى الجيش الفرنسي، بينما فضّل بعض المصاليين الالتحاق بالثورة. وكان علي ملاح قد وجد عدة صعوبات في محاربة المصاليين في الجنوب، فاتخذت القيادة قرار إرسال الرائد ميرة لنجدته. وبالفعل انطلق ميرة من ”أوزلاغن” رفقة ثلاثمائة جندي نحو الجنوب، لكنه وصل متأخرا، لأن العقيد علي ملاح كان قد اغتيل في ظروف غامضة. لكن السؤال الذي ظل يشغلنا طيلة هذه السنوات، هو أن قيادة الثورة في تونس اتخذت قرار تنحية العقيد عميروش من على رأس الولاية الأولى، وتعيين كل من العقيد سعيد يزوران (المدعو فريروش)، والرائد عبد الرحمان ميرة، للتوجه إلى الداخل يوم 31 أكتوبر 1958. فهل يتعلق الأمر بمعاقبة عميروش أم بالتحضير لترقيته أم تعينيه في منصب سفير مثلما راجت الأقاويل آنذاك؟ كيف كان العقيد عميروش يبدو لكم قبل توجهه إلى تونس؟ عدة أيام، قبل أن يتوجه إلى تونس، بدا العقيد عميروش منشغلا جدا. عقد عدة اجتماعات وأصدر عدة أوامر للرائد محند أولحاج. ما كان يشغل بالنا آنذاك هو أنه لم يكن يخفي نيته في الذهاب إلى تونس، وماذا سيفعله هناك حال وصوله، وكان يردد خلال اجتماعاته معنا، أنه سوف يضع حدا لتقصير وسلبية الخارج بخصوص إرسال الأسلحة. وكان يريد فعلا إسماع صوت المجاهدين في الداخل. ولهذا الغرض كان يحمل معه مذكرة العقداء الأربعة الذين اجتمعوا في ”أولاد عسكر” التي تتضمن ثمان وثلاثين نقطة. وكان من المقرر أن يذهب إلى تونس، ويعبر خط موريس رفقة العقيد سي الحواس. وما هي المسألة التي كانت تهمه؟ كان يريد دخول كل المجاهدين في تونس إلى الداخل والمشاركة في الثورة في الجبال. وكان يردد: ”إذا وجد وزير للحربية أو قائد أركان الجيش في غارديماو، سوف نطالبه بأن يكون بيننا في الجبال، وإلا فإننا نرفض تنفيذ أوامرهم”. لكن السؤال الذي ظل يشغلنا طيلة هذه السنوات، هو أن قيادة الثورة في تونس اتخذت قرار تنحية العقيد عميروش من على رأس الولاية الأولى، وتعيين كل من العقيد سعيد يزوران (المدعو فريروش)، والرائد عبد الرحمان ميرة، للتوجه إلى الداخل يوم 31 أكتوبر 1958. فهل يتعلق الأمر بمعاقبة عميروش أم بالتحضير لترقيته أم تعينيه في منصب سفير مثلما راجت الأقاويل آنذاك؟ وهل كان يحظى بمساندة كل قادة الولايات؟ نعم، كان العقيد عميروش يحظى بمساندة جميع الولايات باستثناء الولايتين الثانية والخامسة. وكان عازما على تحقيق مهمته وفق قرارات اجتماع ”أولاد عسكر”. وفي كل الحالات تمكنت أجهزة الاتصالات الفرنسية من تحديد مكان تواجد العقيد عميروش بجبل ثامر، فتم إرسال أكثر من ثلاثة آلاف جندي فرنسي، قضوا على العقيدين عميروش والحواس وقادة آخرين أمثال مستشار عميروش، عيساني محمد السعيد، وعمر ادريس. وأورد بعض الصحفيين أن الضباط الفرنسيين ظلوا بعيدا عن جثة عميروش مدة عشرين ساعة، بسبب الخوف الذي كان يتملكهم. وكيف تلقيتم خبر استشهاد العقيد عميروش؟ لم نصدق في الأول، واعتقدنا أن المسألة لا تتجاوز كونها مجرد إشاعة، لكن بعد أن تكررت إذاعة الخبر عبر كل أجهزة الراديو، أدركنا أن عميروش مات فعلا. شعرنا بالذعر والخوف على مصير ولايتنا بعد موت عميروش، حتى أن أحد المجاهدين مات بسكتة قلبية إثر سماعه الخبر الفاجعة. بعد مؤتمر الصومام، رُقي عميروش إلى رتبة عقيد، وذلك لم يكن ليتحقق من غير مباركة عبان رمضان وكريم بلقاسم والعربي بن مهيدي برزت خلال هذه الفترة خلافات بين الرائدين ميرة ومحند أولحاج، هل استمر الوضع طويلا؟ بالفعل، برز خلاف بين الرائدين محند أولحاج وميرة بخصوص خلافة العقيد عميروش على رأس الولاية الثالثة. وقبل أن يصل قرار تعيين قائد الولاية من تونس، قام الرائد ميرة بوضع حد لعملية ”لابلويت”، وأخلى سبيل ”الزرق” من المتهمين بالضلوع في المؤامرة، والذين كانوا مسجونين بين ”عطروش” و«بونعمان”، كما أخلى سبيل أربعة عشر سجينا فرنسيا كانوا في ”عطروش”. وكيف ظهرت جماعة ”الضباط الأحرار” خلال هذه الفترة التي تميزت بالصراع على القيادة؟ فعلا، برزت جماعة من الضباط أرادت تجاوز الصراع على قيادة الولاية بين الرائدين ميرة ومحند أولحاج، وأطلقوا على حركتهم تسمية ”الضباط الأحرار”. كان أعضاؤها يريدون فرض قيادة مغايرة، ليست من جماعة الرائد ميرة ولا من أنصار الرائد محند أولحاج. لكن بمجرد أن وصل قرار تعيين الرائد محند أولحاج كقائد للولاية، اختفت هذه الحركة. وبفضل قدرة العقيد محند أولحاج على رص الصفوف، وترك الخلافات جانبا، حظي بالإجماع التام. وبالفعل استطاع محند أولحاج إعادة هيكلة جيش التحرير على مستوى الولاية الثالثة، بعد أن تعرض لعدة خسائر بسبب عملية ”جوميل” التي قضت على ستين بالمائة من المجاهدين. كما ساعدت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 على تقوية صفوفنا، وهو ما أدى بكثير من جماعات ”الحركى” إلى الانضمام للثورة. لقد أدت عملية ”جوميل” إلى القضاء على ثمانية آلاف مجاهد، ومائتي ألف مدني، ولم يبق سوى أربعة آلاف مجاهد قادر على خوض المعارك. من هو جودي عتومي؟ ولد المجاهد جودي عتومي سنة 1938 بآيث وغليس (سيدي عيش). بعد الدراسة الابتدائية في ”تيغزرت”، انتقل للدراسة في الجزائر العاصمة في أكتوبر 1952. ناضل في صوف حركة انتصار الحريات الديمقراطية منذ سنة 1953. بعد أن التقى بمجاهدين من المنطقة الثالثة وهم حميتي حمو، مليكشي، حراني مقران وعبد الحميد جوادي، وأبدى لهم رغبته في الالتحاق بالمجاهدين، تلقى رسالة من قادة المنطقة أخبروه فيها أن الثورة بحاجة لخدماته. كان حينها متواجدا بالجزائر العاصمة، ومنها التحق بمركز قيادة الولاية الثالثة في المكان المسمى ”مزورة” بالأكفادو. يقول جودي عتومي: ”سار جدي ورائي، بينما أخبرت أفراد عائلتي بأني قررت الالتحاق بالمجاهدين، فقال لي: عليك أن تموت كرجل. لا تتركهم يلقون القبض عليك. لا أريد مشاهدة الجنود الفرنسيين وهم يعيدونك إلى القرية مكبلا، ويجرونك كما النعجة. هذا مرتبط بشرف العائلة والقبيلة برمتها”. وبمجرد أن التحق بمركز الولاية عمل إلى جانب القادة المقربين من الرائد عميروش الذي كان يشرف على تنظيم المنطقة الثالثة التي تمكنت حينها من تنظيم مؤتمر الصومام. فتعرف على طاهر عميروشن، صالحي حسين، وحاج أوقرقوز. شرع جودي عتومي في العمل على كتابة محاضر مؤتمر الصومام بآلة الرونيو. وإثر عودة العقيد عميروش من مهمته بالأوراس في نوفمبر 1956، استدعاه وكلفه بمهمة نقل مبلغ مائة مليون فرنك إلى غاية منطقة البيبان، وبالضبط إلى المجاهدين بقرية تدعى ”موكا”. وأدى المهمة الموكلة إليه بنجاح، رغم صعوبتها، حيث كان الفصل شتاء. وعقب عودته من المهمة التي كلفه بها العقيد عميروش، عمل جودي عتومي تحت إمرة النقيب وادك أعراب، فتعرف على كثير من أبطال الولاية الثالثة، على غرار الملازم أول غربي صالح، سالم تيتوح، والرائد ميرة العائد حديثا من الصحراء حيث كان يطارد المصاليين. وإثر عودة العقيد عميروش من تونس في مارس 1957، عاد جودي عتومي إلى مركز قيادة الولاية الرابعة، وهناك تعرف على القس ليستر غريفيث الذي أقنعه العقيد عميروش بعدالة الثورة الجزائرية. وكان غريفيث من بين الشخصيات الأمريكية التي عرفت بالثورة الجزائرية لاحقا. عايش عتومي مرحلة ”لابلويت” الفظيعة بالولاية الثالثة، فدافع في مؤلفاته عن العقيد عميروش، وحمّل مسؤولية ما جرى لأجهزة الاستخبارات الفرنسية وعلى رأسها النقيب ليجيي. ويروي عتومي في كتبه أن العقيد عميروش اجتمع بنوابه بعد اكتشاف المؤامرة، وقال لهم: ”عليكم أن تقرروا طبيعة السلوك الواجب اتباعه، لأني لا أريد أن أبدو أمام التاريخ غدا كمجرم حرب. علينا أن نتخذ القرار سويا”. بعد استشهاد العقيد عميروش، كلف جودي عتومي بالالتحاق بالمنطقة الرابعة، وبقي فيها إلى غاية سنة 1960. وفي عام 1961 رقاه العقيد محند أولحاج إلى رتبة ضابط. بعدها انتقل إلى القبائل العليا. وعقب الإمضاء على اتفاقيات ”إيفيان”، كلف بتطبيق بنودها في الولاية الثالثة.