سي صالح لم يقتله رفاقه بل استشهد في معركة ضد قوات النقيب غاستون تحدث المجاهد جودي عتومي في الجزء الأول من هذا الحوار الذي خص به "الخبر"، عن شخصية العقيد عميروش، وفنّد المزاعم التي روّج لها ايف كوريير في كتابه حول "حرب الجزائر"، بخصوص وجود خلافات بينه وبين عبان رمضان، في إشارة إلى ما كتبه كوريير بأن العقيد عميروش أراد تصفية عبان. ويتحدث في الجزء الأخير من هذا الحوار عن الخلافات التي برزت في الولاية التاريخية الثالثة عقب استشهاد العقيد عميروش، وبروز قبضة حديدية بين الرائدين محند أولحاج وعبد الرحمان ميرة، إضافة إلى بروز حركة سميت حركة "الضباط الأحرار" التي أرادت خلق قيادة مستقلة. كما يتوقف مطولا عند قضية سي صالح زعموم. هل كان العقيد عميروش يفكر في تعيين خليفة له؟ أولا، أريد أن أنبه إلى أن العقيد عميروش كان قائدا محبوبا من قبل جميع المجاهدين، من الضباط إلى الجنود، وقد شاهدته بأم عيني وهو يحضر الأكل للمجاهدين بنفسه، ولا يأكل إلا بعد أن يفرغوا هم من ذلك. كان ينام بينهم، وكان سخيا وعطوفا وإنسانيا معهم إلى حد بعيد. وكان بعض الضباط مقربين منه طبعا أمثال الرائد سي محند أولحاج، والرقيب صالحي حسين الذي ألقي عليه القبض وأعدم في جوان 1958، إضافة إلى النقيب عيسى حميطوش المدعو ”بونداوي” الذي استشهد بدوره في جويلية 1958 في بني دوالة، وقد ترك فراغا كبيرا في قيادة أركان الولاية الثالثة. كما لا ننسى أن طاهر عميروشن كان بدوره من المقربين من العقيد عميروش، بل كان ذراعه الأيمن، وقد لعب دورا كبيرا في تنظيم الثورة بالولاية الثالثة. على ذكر العملية العسكرية الفرنسية ”شال”، هل كانت قضية سي صالح نتيجة لهذا الحصار؟ شغلتني هذه القضية كثيرا، وكنت دائما أتساءل كيف يحق لولاية أن تبادر بالتفاوض حول أي سلام مهما كان أو وقف لإطلاق النار، وذلك بصفة معزولة، دون احترام القيادة، وبخرق قواعد الثورة؟ وبالفعل كانت وثيقة مؤتمر الصومام تنص على وحدة القيادة، وحددت سلطات كل مسؤول. فالاتصالات الرسمية، والمفاوضات مع العدو تعتبر من مهام المسؤولين السياسيين في الخارج. كنا حينها، وقد سمعنا عن خطوات سي صالح، نحتفظ بآرائنا لأنفسنا، ولم نكن نصدر أي أحكام. وبغية تبرير هذه الوضعية، كنا نردد أن كثيرا من الأمور تتجاوزنا، وكان يحدونا إحساس بالرفض، أقصد رفض خطوات جماعة سي صالح، بدل أي إحساس بالحقد تجاه تلك الجماعة. ذكرت في كتابك حول الولاية الثالثة أنك التقيت شخصيا بالعقيد سي صالح، هل دار حديث بينكما؟ نعم، التقيت به، وقد طرح علي السؤال التالي: ”ما رأيك في مفاوضات ”مولان”؟، فقلت له: ”لا أتفق مع الشروط التي طرحت من قبل الفرنسيين، فأنا أعتقد أن ترك السلاح والتمركز في التجمعات، يعتبر بمثابة استسلام لا غير. هل هذا هو ”سلم الشجعان” الذي تحدث عنه ديغول؟ نحن لا نريد سلما مثل هذا”. ثم سألني مجددا: ”وماذا سنفعل لو فشلت مفاوضات ”مولان”؟، فقلت: ”سنواصل الكفاح”. فقال: ”نواصل الكفاح؟ بواسطة ماذا؟”. هكذا سألني وقد بدا عليه التعب. وكان ردي على الشكل التالي: ”هؤلاء الذين فجروا الثورة في نوفمبر 1954 لم ينتظروا وصول الأسلحة كي يفعلوا ذلك. لقد فجروا الثورة بواسطة بنادق الصيد والمسدسات والخناجر. وسوف نستمر في الكفاح بالوسائل التي بحوزتنا”. كنت أعرف جيدا أن العقيد صالح زعموم كان من أوائل المجاهدين الذين التحقوا بالثورة، فاستنتجت أن نواياه كانت حسنة، وكل ما في الأمر أن مزاجه كان معكرا. صعب أن يجد الإنسان نفسه في ذلك الوضع. كنت أعتقد أنه كان يرغب في معرفة نواياي. وقد فهمت أنه كان يبدي ثقة في الجنرال ديغول الذي يكون قد وعده ”بنهاية مشرفة للمحاربين”، لكنه كان عاجزا عن إقناع الحكومة المؤقتة، ولا أي طرف آخر بحسن نواياه، ولا تقاسم تفاؤله معهم. وهل كانت عند الجنرال ديغول نوايا معينة؟ في الحقيقة كانت عند ديغول فكرة مسبقة، عجز عن تحقيقها، ويتعلق الأمر بإضعاف السياسيين، بواسطة التفاوض مباشرة مع المجاهدين في الجبال، هؤلاء الذين يسميهم ”الرجال المسلحون”. ويظهر أنه كان يمقت ”سياسيي” جبهة التحرير الوطني. ولماذا كان العقيد سي صالح يطرح عليك تلك الأسئلة؟ ربما كان ينوي معرفة نوايا المجاهدين، عبر معرفة موقفي الشخصي، أو كان يسعى للحصول على صدى إيجابي لدي بخصوص خطوته الانتحارية؟ كان رأيي جاهزا، لم أكن أتفق أبدا مع هذه الخطوة الانتحارية التي تضعف صفوف الثورة، عبر خلق انقسامات بداخلها. وكان هذا الرأي، قبل أن أدرك أن الخارج تخلى عن الداخل. وكم مكث العقيد سي صالح في الولاية الثالثة؟ بقي العقيد سي صالح عندنا بالولاية الثالثة مدة خمسة عشر يوما، وكان ينتظر لقاء العقيد محند أولحاج. وكنت دائما أتساءل لماذا تركه قائد ولايتنا ينتظر كل تلك المدة. ربما لكي يجعله يدرك أنه بحاجة للوقت كي يفكر في هذه القضية المعقدة جدا. وكان يبدو جليا أن العقيد محند أولحاج اتخذ قرار عدم مسايرة هذه الخطوة الانتحارية. ولماذا وافق على استقباله بعد كل تلك المدة؟ فعل ذلك اعتبارا لكون سي صالح من المجاهدين الأوائل، وقرار رفض هذه المبادرة كان لا رجعة فيه. وحسب معرفتي لشخصية العقيد محند أولحاج، لم تراوده أبدا فكرة مسايرة هذه الخطوة. كان متمسكا بالشرعية، مهما كان. ورغم الظروف القاسية التي كان يعاني منها المجاهدون في الجبال، والسكان في المداشر، رفض السير في هذا الاتجاه. وقد بقي العقيد محند أولحاج يستمع للحكومة المؤقتة وظل وفيا لها، رغم أنه لم يكن على وفاق دائم مع القرارات الصادرة عن المسؤولين في الخارج، والذين استمروا في تجاهل المجاهدين في الجبال. ولماذا جاء سي صالح للولاية الثالثة، هل كان ينوي إقناع محند أولحاج بصواب خطوته؟ كان سي صالح يسعى لمعرفة مسار الأمور، والاتصال مع المسؤولين بغية إقناعهم بالانضمام إلى مساعيه. وعلى خلاف ما أورده كثير من المؤرخين الفرنسيين، فإنه لا أحد من مسؤولي الولاية الثالثة أبدى مساندته لخطوة سي صالح، ولا الانضمام إليها. لقد وجد نفسه وحيدا، رفقة رفاقه يبحث عن مخرج من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه. وما هي ظروف استشهاد العقيد سي صالح؟ يوم 19 جوان 1961 كنت متواجدا في ”ايغيل أبركان”، في الجهة الجنوبية لجبال جرجرة، لما وصلتني رسالة من القيادة، طلبت مني انتظار مجموعة من المجاهدين يرافقون سي صالح في المكان المسمى ”أغوني لهوا” في عمق جرجرة. كنت حينها في مداومة بالقطاع الرابع بقرية ”آيت واعكور”، وكانت منطقة ممنوعة حيث كانت تخضع لقصف مستمر من قبل الجيش الفرنسي الذي كان يطلق النار على كل شيء يتحرك. وقبل أن يرخي الليل سدوله، قمت بتعيين بعض المراقبين بغية معرفة لحظة وصول سي صالح ومن معه من المجاهدين. وعند حدود الساعة الثامنة، أشار لي أحد الجنود المكلفين بالحراسة إلى أنه أبصر أشخاصا على بعد بضعة أمتار عنه. لكنه عجز عن إدراك إن كان الأمر يتعلق برجال ”الكوموندوس” الفرنسيين أو برجالنا. توخى الحذر، ورفض مخاطبتهم. بعد ذلك بعدة ساعات، سمعنا دوي رصاص هائل استمر لوقت قصير، ثم خيم الصمت من جديد. وفهمت أن من كنا ننتظرهم وقعوا في كمين على بعد أربعة أو خمسة كيلومترات من وضعيتنا. ونظرا لقصر وقت دوي الرصاص، فهمت أنه لم يبق منهم أحياء. وبالفعل وصلني بعد ثلاثة أيام، أن الجميع استشهد، ويتعلق الأمر بالعقيد سي صالح زعموم، والملازم أول سي بوجمعة أوشيش، مسؤول الناحية الثانية، والملازم غربي شريف المدعو ”حاج رغاوي”، مسؤول الناحية الأولى، إضافة لأربعة مجاهدين. لقد استشهد سي صالح، وهو يحمل السلاح، مات وهو يحارب العدو، مثلما كان يتمنى لما التحق بالثورة في نوفمبر 1954. وكيف تناول الجنرال ديغول في مذكراته أطوار هذه الحادثة؟ ما لم يقله ديغول في مذكراته، أنه بعث برسالة للحكومة المؤقتة، ليخبرها عن استعداده لاستقبال موفديها في أي وقت وفي أي مكان. ويؤكد جميع المؤرخين أن ديغول قام بتقديم جماعة سي صالح كقربان، وكان يدرك أن مسألة التوصل إلى الإمضاء على وقف إطلاق النار مع قادة الولاية الرابعة، لا تؤدي إلى أي نتائج، وأن الحل الأمثل للمشكلة الجزائرية كان يجب أن يمر عبر الحكومة المؤقتة، وأنا متيقن من أن سي صالح نفسه أدرك أن ديغول خدعه. وما لم يعترف به الجنرال ديغول في مذكراته، أنه وضع كشرط مبدئي لهذا ”السلم المحلي” مشاركة الولاية الثالثة، وأنه أخبر الجماعة بأنه لو رفضت الولاية الثالثة مساندة هذه الخطوة، فإن الأمر سينتهي. كان يعرف جيدا أن الولاية الثالثة تعد بمثابة ”قلعة التمرد” مثلما يسميها في مذكراته، وأنها هي الوحيدة القادرة على الضغط على الحكومة المؤقتة لكي تشرع في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية. وكتب كذلك أن سي صالح قتل من قبل رفاقه، هل هذا صحيح؟ فعلا، كتب هذا، لكن هذا غير صحيح إطلاقا. العقيد سي صالح لم يقتله رفاقه في السلاح، لكنه استشهد كما أشرت آنفا في معركة ضد العدو الفرنسي بقيادة النقيب غاستون. وكيف عشتم في الجبال مرحلة الجنرال ديغول والجمهورية الخامسة؟ اتخذت الحرب ضد الجزائريين بعد عودة الجنرال ديغول للحكم سنة 1958 أبعادا أكثر قسوة وضراوة، فقد قام برفع وتيرة المعارك بشكل فظيع. وفي ظرف قصير جدا فقدنا في الجبال آلاف الضحايا، وبرزت ظاهرة التحاق بعض المجاهدين بالعدو، تحت تأثير الروح الانهزامية. وبالفعل، أدت العمليات العسكرية الكبرى التي شرع فيها ديغول إلى ضرب جيش التحرير، فالولاية الثالثة فقدت لوحدها ستين بالمائة من جنودها بسبب سياسة الأرض المحروقة. لقد خسرنا المعركة خلال عملية ”جوميل” الشهيرة، لكننا لم نخسر الحرب، كما ساهمت الانتصارات السياسية والديبلوماسية التي كانت تحققها جبهة التحرير الوطني في الرفع من معنوياتنا، وعزمنا فعلا على الاستمرار في المعركة ورفضنا الانهزام. وقد برزت حينها في الجبال، ظاهرة التحاق ”الحركى” و”الڤومية” بالثورة، بعد أن تيقنوا أن النصر قادم لا محالة، وبمساعدتهم نظمنا هجمات على عدد من المراكز العسكرية الفرنسية، كإستراتيجية جديدة لجيش التحرير. لقد شعر الجنرال شال الذي كان يعتقد أنه سوف يسحق ”التمرد” بالخيبة، لأن النتائج التي كان يشاهدها في ميدان المعركة لم تكن مثلما خطط لها، لقد أصيب فعلا بالخيبة. وبعد مرور حوالي ستة أشهر، تمكن جيش التحرير من استعادة زمام المبادرة، وانتصر على خطة الجنرال ديغول. وفي هذا الظرف بالذات، حررننا مناطق كثيرة، سميت ”المناطق المحررة”، فانتشر الذعر في أوساط ”الكولون” و”الحركى” و”الڤومية”.